دفعت بي للكتابة هذه المرة صورة تلك الطفلة الفلسطينية الرضيعة التي رأيناها جميعًا وتوقفنا أمامها؛ وهى صورة واحدة من بين مئات الصور الأخرى، صورة مزقت قلوبنا دون شك، فهذه الصغيرة الطاهرة تصرخ وتبكي، تشكو ظلم عالمها الذي فقد إنسانيته بعد أن تم قصف بيتها كانت تبكي من تحت أنقاض منزلها المنكوب الذي كان يضمها يحميها ويأويها.
كانت كالملاك تعيش بداخله وتنعم بالأمان، رأيناها تستدعي العالم كله بنظرتها التي استجارت بها معلنة عن ضعفها وقلة حيلتها تمكنت بألمها وصراخها أن تنتزع قلوبنا من أماكنها وتجعلنا ونحن هنا بعيدًا عنها نتوجه للمنتقم الجبار بالدعاء راجين منه أن يثأر لها وينتقم ممن ظلمها.
كانت تحفر بأصابعها الصغيرة قصتها تدونها فوق الأحجار من قبل أن تتعلم حرفًا واحدًا من حروف لغتها، كانت تظن ببرائتها أن هناك من يسمعها وسط كل هذا الصخب، كانت تحسب أن لمن طغى وبغى عليها عيونًا وآذانًا أو له أيادي إنسانية ستمتد إليها محاولة نجدتها.
يبدو أنها بدأت ترى الصورة الآن على حقيقتها وتعيد كل حساباتها في الحكم على هذا العالم الظالم الذي استقبلها بسعادة وهمية عالمها الجائر الذي هلل يوم مجيئها، ثم انقض عليها في إحدى نوبات وحشيته ليسلب منها طعامها وشرابها ودواءً شافيًا لعلتها، إنها تشكو إلى الله من ظلم عالم استحل القضاء عليها وسعى لإزهاق روحها.
إنه عالم يحمل في حنايا صدره حجرًا يطلق عليه كذبًا وافتراءً اسم "قلب" عالم أصدر حكمه عليها بنص من بين نصوص قوانين غابته التي أعدها لها وهي لم تزل بعد جنينًا يتحرك في رحم أم كم حلمت بمجيئها، رسمت مستقبلها واشتاقت لرؤيتها من قبل أن تضعها وتضمها لصدرها.
كانت الصغيرة تتنفس أملًا كزهرة ندية حلت بأرض لكي تنثر فيها عبيرها وعطرها، عطرها الزكي يمكنه أن يغطي كل مساحات عالمها، وحين قررت أن تسير أولى خطواتها نحو الحياة اتكأت بيديها على سياج حديقته كي تستطيع النهوض وبدء مسيرتها دون إدراك منها لقسوته.
حديقته غرسها الألغام والبارود وحصى أرضها رصاصات متربصات لكل ملاك طاهر، فعدوك يبغض الطهر والأطهار، رأيتها كطائر صغير أخفق في أولى محاولاته للطيران، فإذا ما فرد جناحيه للحظات وحلق سعيدًا سقط على الفور داخل عرين أحد الأسود فاطمأن وهو يظن بأنه قد وجد مأمنه ونجا من تهديدات بندقية الصياد.
ستزول الغمة يومًا ما وسيصدر أحكم الحاكمين حكمه بانتهاء تلك المأساة، وستصبح تلك المشاهد في الذاكرة باقية؛ لتؤكد لنا صدق وعد الله بعودة الحق لأصحابه وزوال دولة الطغاة.