(أغادركم بكثير من الألم وقليل من الأمل)... تلك كانت آخر الكلمات التى ترددت على لسان العميد وهو يودع عالم الفكر والثقافة والأدب بعد رحلة عاصفة كان يستشرف خلالها الأفق الثقافى المستقبلى، كأنها آخر بكائية يسجلها العميد فى حسرة تاريخية بعد كل ما أشاع من آرائه وأفكاره ونظرياته ونصائحه ومعاركه وقضاياه وترجماته وتراجمه وحميته على اللغة وروحه المتوثبة للجديد دائما، تلك التى بثها فى كتائب تلامذته شرقا وغربا والتى أحدثت دويا هائلا فى حياة الفكر العربى الحديث والمعاصر، فكم أقدت صيحاته مضاجع المثقفين على جملتهم، وكم أقام الدنيا وأقعدها حتى صار يمثل سلطة ثقافية طاغية يصعب كثيرا الانفلات من أسرها، لذا فقد باتت هى الضمير الأدبى لعقود طوال!!
فمن ذا الذى يصدق أن يكون آخر ما يلفظ به حاملا لرؤية تحذيرية تشير إلى ضرورة تبديد العتمة الثقافية ومجانبة ترنح العقل العربى وتردى الوعى القائد نحو الغيبوبة الفكرية.. تلك التى تأباها كرامة الثقافة العربية الأصيلة الضاربة فى أعماق التاريخ، والتى أنتجت من المعاني الرفيعة والقيم السامية ما لم تبلغه ثقافة أخرى.، وانطلاقا من مظلة الشموخ هذه وانطلاقا كذلك من ممارسات السطوة الفكرية تلك.. كيف للعميد الذى ملأ الدنيا وشغل الناس أن يكون له إطلالة على الواقع الثقافى والفكرى اليوم؟ هل تكون إطلالة رضى أم سخط وأسى؟ بالطبع تكون الأخيرة لرجل لا تتصالح نفسه وعقله إلا مع التفوق والامتياز والألمعية والسمو والمثابرة والذكاء والعبقرية.. وغيرها من المعانى التى تحرز كل تقدم وتحقق كل غاية وتستحضر كل أمل..
إذن كيف غابت كل هذه المعانى عن الواقع الثقافى؟ ولماذا غابت؟ وما هى المعانى الأخرى البديلة الأكثر دافعية؟ وهل كان السعي الأرعن وراء الانتماء لتيارات الحداثة وما بعد الحداثة طامسًا لهذه المعانى فى عقول الصفوة المثقفة؟ وهل انمحت العلاقة بين هذه القيم التقدمية وبين تلك التيارات؟
لكن السؤال المركزى الذى يجب استحضاره بعد نصف قرن على رحيل العميد هو كيف نشأ هذا الواقع المتردى ثقافيا وهو ابن لماض تنويرى عقلانى؟
إن الحياد عن الثوابت والاعتداد الأجوف بالذات المعاصرة والعصف بتراث الماضى -ليس إلا لكونه ماضيا وكفى- هى الآفات المباشرة التى شوهت الواقع ومزقت أوصال المكون الثقافى المصرى ودعمت نزعة التغريب وجهلت الأكثرية بإشراقات التاريخ العربى سياسيا وثقافيا واجتماعيا ودينيا وروحيا وأحدثت تحورات فى طابع الشخصية المصرية.
فهذه بعض الأسس الثقافية والفكرية التى قدمها العميد ولا أثر لها على خريطة العقل المعاصر، بينما هى تطوى الأبعاد الزمنية الثلاثة، وأبرز هذه الأسس ما سجله فى خضم معركته الشهيرة مع العقاد إذ قال: ليكن الناس جميعًا كلهم مثلى يكرهون أنصاف الحقائق ويؤثرون العلم والتاريخ على كل شيء، لكن أحفاد العميد وما تلاها من أجيال إنما باتت تعشق الأكذوبة وتجهل التاريخ ولا تنتمى للعلم منهجا أو موضوعا وتفاخر بسيادة مفهوم ما بعد الحقيقة الذى اجتاح العالم وهو لا يعدو أن يمثل طاقة هائلة من الوهم، أما ثانيها فهو أن الأدب ليس إنشاء فحسب، إنما الأدب إنشاء ووصف وقد كثر الإنشاء الرديء المبتذل لفظا ومعنى، وغاب الوصف الدقيق والحس المرهف والخيال العابر بينما اتجهت رؤية العميد كذلك إلى أن للأدب لغته الخاصة دائما، هى هذه اللغة الرصينة التى تملأ ألفاظها الفم ولا تنبو عنها الأذن ولا يضيق بها الذوق.
وبنفس تلك الروح النقدية النزيهة أكد العميد قائلا: لست أعرف أدبا مقيدا فى التحرج غاليا فى الاحتياط كأدبنا العربى الحديث الذى ينشؤه أصحابه وهم يفكرون فى الناس أكثر مما يفكرون فى أنفسهم حتى أطمعوا الناس فيهم وأصبحوا عبيدا للجماعة وخدما للقراء، فلنتمرد على الجماعة ولنثر بالقراء ولننبذ هذا الاحتياط كله إلا ما يثير الشر أو يؤذى الأخلاق. بينما هم يقدمون محتوى أجوف لا علاقة له بالحس الجمالى ولا بالذوق اللغوى ولا الشطح الإبداعى، وفوق كل ذلك نراه يعلى من النزعة القومية قائلا: إن مصر تنتمى حضاريا إلى أوروبا، وهو ما يعنى حتمية الاعتزاز بقوميتنا وبوضعيتنا الحضارية السابقة على حضارات أخرى كثيرة.. لكن استحال على المعاصرين الممكن فوجب عليهم الاعتذار لأنهم حفدة رجل حطم كلمة المستحيل.