في ظلال ذكرى 2؛ تهفو القلوب والأفئدة إلى الاستماع والاستمتاع بترديد الأغنيات التي صاحبت هذا الانتصار؛ وواكبت الأحداث لحظة بلحظة منذ الطلقات الأولى لمدافع الجيش المصري في اتجاه تحطيم "خط بارليف"؛ تمهيدًا للعبور العظيم إلى الشرق؛ حيث رمال سيناء الحبيبة التي غابت عن الجسد الأم طوال ما يقارب سبع سنوات؛ شعُر فيها المصريون؛ بأن "بلدنا (ع) الترعة.. بتغسل شعرها.. جاها نهار ماقدرش يدفع مهرها" وتساءلوا ـ مع كلمات الأبنودي:
"يا هل ترى الليل الحزين.. أبو النجوم الدبلانين .. أبو الغناوي المجروحين.. يقدر ينسّيها الصباح.. أبو شمس بترش الحنين؟ وكان الإصرار بالرد البليغ: "أبدًا بلدنا للنهار.. بتحب موَّال النهار"؛ لينتصر الجندي المصري في معركة الشرف واسترداد الأرض المغتصبة؛ وهو الذي يعرف ــ مذ كان في صفوف جيش مينا" معنى وقيمة الوطن؛ وقيمة ترابه المقدس؛ فتنفس الصعداء مع الإرهاصات الأولى للانتصار الذي لاح في الأفق؛ فتفجرت ألحان أغنيات المقاومة؛ وردد المصري من أعماق روحه وقلبه ووجدانه: "أنا على الربابة باغني.. غنوة أمل في النصر.. تعيشي يامصر"!
نعم.. كان لتلك الأغنيات بكلماتها المؤثرة الصادقة؛ وقع خاص في النفوس؛ لأن لأغنية المقاومة مذاقًا خاصًا في مواجهة المحتل والطغيان؛ ووسيلة حشد وتعبئة وشحذ للهمم المُحبة لتراب الوطن وتاريخه؛ والإيمان بقضيته العادلة؛ وحقه المشروع في نيل الحرية الكاملة للأرض.. والبشر!
وسطور صفحات التاريخ تذكُر ــ ولابد لنا أن نُذكِّر الأجيال الجديدة ــ أنه مع ثورة 23 يوليو 1952 تألقت أغنية المقاومة نتيجة تألق المعارك الوطنية التى كانت تخوضها مصر ضد الاستعمار وأعوانه؛ من أجل نيل الاستقلال ودحر المحتل الغاصب الذي يحتل الأرض بمعاونة قوى الاستعمار الأجنبي؛ وتواطؤ الخونة مع السلطة في "القصر"؛ ففى العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956 كان للغناء دور تعبوي هائل للمصريين خلف الزعيم جمال عبدالناصر؛ فكانت أغنيات المقاومة خلال أحداث العدوان تعد من أنصع فصول تاريخ الأغنية الوطنية المصرية؛ فكانت جماهير الشعب المصري تردد وتهتف خلف عبدالناصر تلك الصيحة التي أطلقها من على منبر الأزهر الشريف: "ح نحارب".. ليلتقطها الشاعر الوطني المخلص صلاح جاهين وصاغ منها أغنية حماسية تبدأ بمقطع: "ح نحارب.. ح نحارب/ كل الناس ح نحارب/ مش خايفين م الجايين/ بالملايين ح نحارب "وانفعل الشيخ سيد مكاوى بكلمات الأغنية وبعد ساعات قليلة من تأليفها زأرت بها أصوات مجموعة المنشدين عبر الإذاعة؛ واندحر العدوان الثلاثي.. وانتصرت مصر!
واليوم.. ونحن نشاهد "انتفاضة الأقصى" في فلسطين المحتلة؛ هل سيكون لأغنيات المقاومة الدور الفعال في بث روح الاستمرارية في القتال وفرض إرادة أصحاب الأرض لاسترداد ما تم سلبه عنوة؛ وسط صحراوات الصمت الرهيب في عالمنا العربي؟!
نحن لسنا دعاة حرب ودماء .. ولكننا حتمًا لابد أن ننتفض لنصرة أخوة لنا في العروبة والمصير المشترك .. ولابد للرأي العام العالمي أن يؤازر القضايا العادلة؛ بدلاً من هذا الصمت الرهيب حيال ما يجري على الأرض المحتلة.
وقد يقول قائل ـ بسلامة أو سوء نيَّة ـ: إن هناك ثمة اتفاقيات ومعاهدات للسلام بين دول الجوار! ولكن السلام غير موجود داخل الأرض المحتلة.. ولكن لأصحاب الأرض الشرعيين بالداخل.. حق المقاومة لنيل الحكم الذاتي؛ حتى لو استمر الاحتلال بمباركة ومساندة قوى الشر العالمية بالتأييد بالعتاد والسلاح؛ حتى يحين "وعد الله الحق" في كتابه العزيز؛ حيث جاء في "سورة الإسراء": (وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً * ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً * عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً).
وإلى أن يحين "وعد الله الحق" الذي سيأتي حتمًا؛ فإنه يجب على كتائب الفنانين من المؤلفين والملحنين؛ الذين يؤمنون بدور الفن والفنون في مقاومة كل أشكال الاحتلال القهري؛ أن يقوموا بـ"تجنيد الأغنية" جنبًا إلى جنب مع رصاص البندقية؛ ولن تنضُب قريحة الكُتاب والملحنين عن إنتاج كل ما هو شحذ لكتائب المقاومة؛ داخل وخارج الأرض المحتلة.
إنني حين أنادي ببعث الروح في أغنيات المقاومة؛ لإيماني الشديد بأنها هي الموروث الثقافي الذي يواكب الأحداث الوطنية والقومية؛ وتُعد التأريخ الصادق لكل ما يمر على الأوطان من أفراح وأتراح؛ وهي المخزون الذي يحرِّك الوجدان والإحساس الجمعي لمؤازرة السلطة الوطنية؛ وتأجيج روح الحب للوطن وترابه المقدس؛ أو معارضة السلطة الجائرة إذا ما انحرفت عن المسار الصحيح.
إننا في انتظار الصحوة الغنائية ـ بالكلمة والموسيقى ـ التي تحمل سمات الوطنية الصادقة والمقاومة المشروعة؛ حتى يلتف حولها الإحساس الجمعي في كل أنحاء الوطن العربي.. لنستقبل الانتصارات تلو الانتصارات؛ وليعلم العالم أننا دعاة سلام وطلاَّب للأمن والأمان والحرية؛ لكل الأجيال الحالية والمستقبلية.
والنصر قادم بمشيئة الله.. ثم إرادة الشعوب!
........
أستاذ اللغويات والتأليف والكتابة الإبداعية بأكاديمية الفنون ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق وعضو اتحاد كتاب مصر