نصف قرن بالتمام والكمال مرت على حرب السادس من أكتوبر يوم النصر العظيم على العدو الإسرائيلي المتغطرس، الذى أوهمه خياله الجامح المريض والمشوش أنه سيكسر شوكة مصر وشعبها، وأنه ما عليهما سوى التسليم بالواقع بلا مقاومة، واعتقد أن أدوات ومعطيات القوة لديه يؤازرها دعم أمريكى بدون سقف ستمكنه من بسط إرادته وفرض شروطه المجحفة على أم الدنيا.
لكن إحساسه الزائف بالانتشاء بقوته أعماه عن إبصار الحقيقة الأزلية الماثلة أمامه، وهى أن مصر وجيشها كانا على مدى التاريخ يتكفلان بمَن يمس أرض الوطن أو يعتدى عليها من المحتلين الذين تقاطروا عليها قديمًا وحديثًا، وذاق طعم ومرارة الهزيمة والخذلان على يد قواتنا المسلحة الباسلة التى خاضت المعركة بخطة إستراتيجية رفع لها الجميع القبعة لجسارتها وتجهيزاتها الشاملة، لاستيفاء شروط نجاحها، وتوجيه ضربات مفاجئة ومباغتة للجيش الإسرائيلي المختال والمغرور، الذى لم تلتئم، ولن تلتئم قريبا، جراحه الغائرة منها، وبدا هشًا ومحطمًا وتائهًا، مثلما شاهدناه، ولا نزال، فى الهجوم الكاسح الذى نفذه مقاتلو حركة "حماس" الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023.
ومَن يرغب فى العثور على أحدث شهود وأدلة ذلك فليشاهد فيلم بدأ عرضه قبل أسابيع في دور السينما الأمريكية عنوانه "جولدا" ـ رئيسة وزراء إسرائيل عند نشوب حرب أكتوبر، الذى اعتمد على وثائق لجنة التحقيقات الإسرائيلية "اجرانات” المكلفة بمعرفة ما تسبب فى اندحار القوات الإسرائيلية أمام المقاتل المصرى، وأظهر انهيارها داخل مركز القيادة وهى تسمع محادثات قادة جيشها الذين يعددون خسائرهم البشرية والمادية، وعدم قدرتهم على وقف هجمات الجيش المصرى، واستعانتها بوزير الخارجية الأمريكية حينئذ "هنرى كيسنجر" لإنقاذ بلادها من السقوط والانهيار المدوى.
ومع احتفالنا باليوبيل الذهبى لانتصارنا المجيد تشغلنى كثيرًا قضية توعية الأجيال الشابة التي أبصرت نور الحياة بعد السادس من أكتوبر بما دار خلاله وقبله، واستلهام قيمه ومبادئه الجليلة، حتى تظل حاضرة وحية في وجدانهم وعقولهم، ونبراسًا ومرشدًا لهم فيما سيواجه وطننا من تحديات وصعاب مستقبلية، ودورهم في التصدى لها والقضاء عليها في مهدها وألا ينخدعوا ويتأثروا بحملات التضليل والتزييف التي تستهدف بلادهم على مدار الساعة، وتكثفت جرعاتها مع انتشار منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة والنشطة ليلا ونهارًا طوال أيام الأسبوع بدون أن تلتقط أنفاسها لثانية واحدة.
فشبابنا الدارس تاريخ بلده جيدًا مطالب بإدراك أن عبورنا من الهزيمة إلى النصر فى السادس من أكتوبر الخالد كان نتاجًا لصناعة ثقيلة للغاية، إن جاز التعبير، شارك في بنائها وصيانتها والسهر عليها الجميع، فهى عمل جماعى بامتياز، وتحلت أطرافها بالمسئولية في أجلى صورها ومشاهدها، واستعدادها للتضحية والفداء بأغلى ما يملكون، وهى أرواحهم، وأسقطت من حساباتها ونظرتها كل ما هو ذاتي ويدور في فلك الأنانية.
هذه الصناعة كان أساسها وعمودها الفقرى التخطيط العلمى الدقيق والمتقن، والاحترافية والمهنية العالية، ولولاها ما كان ابتكار وسائل ومعدات تحطيم خط بارليف المنيع، وتحويله لجثة هامدة لا يصد ولا يرد، ونجاح جنودنا البواسل في تسلقه واجتيازه حاملين أسلحتهم الثقيلة والخفيفة على ظهورهم، ليرفعوا راية النصر على الضفة الشرقية لقناة السويس.
أيضا لولاها ما كنا نجحنا في رفع الروح المعنوية للمواطنين، بعد الذى جرى في الخامس من يونيو 1967، واستعادة الثقة والمصداقية المدمرتين فيما ينشر ويبث عبر وسائل إعلامنا من بيانات رسمية تخص سير المعارك الحربية، أو غيرها من الشئون العامة والسياسية، ويرجع الفضل إلى أن القائمين على صحافتنا ومعها الإذاعة والتليفزيون درسوا مليًا وباستفاضة ما وقعنا فيه من أخطاء كارثية ومفجعة عند معالجة وتغطية حرب 67، وأدوا مهمتهم المنوطة بهم ضمن خطة الخداع الإستراتيجي التي تولى صياغتها وتطبيقها الدكتور "عبد القادر حاتم" نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الإعلام، بتعليمات من الزعيم الراحل "أنور السادات" الذى حمل على عاتقه عبء التجهيز والتنفيذ لكل كبيرة وصغيرة لخوض الحرب في وقت عصيب ومشحون بالتوتر والاحتقان الداخلى.
وما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن الانضباط والتكاتف كانا ملازمين لخطواتنا وتحركاتنا الحربية في سيناء وخارجها، فعندما تتحدث مع مَن عاصر هذه الفترة سيخبرك بأن هذه السمة كانت السائدة في حياتنا اليومية أثناء المعركة وما بعدها، فعلى سبيل المثال كان المنتظرون لوسائل النقل العامة يتمهلون في الصعود لحين نزول الركوب، ولم ترصد السجلات الرسمية أي حوادث سرقة خلال الأسبوعين التاليين لانتصارنا، وقبل العبور العظيم كان المصريون صامدين، على الرغم من معاناتهم من نقص بعض السلع والمنتجات الضرورية، وتفهموا ما تمر به البلاد من ضيق وأزمة تستلزم للتغلب عليها توحيد صفوفهم والتحمل.
تلك بعض قيم أكتوبر النبيلة التي يتعين ترسيخها وتعميقها وغرسها فى شبابنا، لا سيما أن التحديات الوطنية لا تنتهي وتتجدد بأشكال مغايرة ومستحدثة، بل إنها تزداد حدة وصعوبة واتساعًا، وما يهونها ويسهل السبيل لدرء أخطارها، هو الوعى، والتكاتف، والانضباط الشديد بمعناه الشامل، وإتقان التخطيط والتطبيق.