حين يكون الحديث عن وحول نصر أكتوبر المجيد، فهذا ليس حديثًا عاديا بالطبع يرصد ذكرى غالية، بل إنها رواية الزمان وكل زمان، طالم ارتبطت أجواؤها وأشخاصها وأمانها وأزمانها بلمحمة من ملاحم التاريخ الحديث، ملحمة وطدت ورسخت هذا المفهوم اليقيني لدى أبناء الوطن أولا، ثم لدى أي طامع بأنه في حرم العزة والفخر والتحدي والإصرار واليقين الذي لا يعرف المستحيل.
ملحمة وطن كان له السبق في كل شيء وكل مجال، وطن علم الإنسان التحضر وعلمه العلم، وطن تشكلت ملامح أبنائه امتزاجًا بهذا التراب المقدس لوطن الأوطان مصر.
ولذلك فإن هذا النصر الغالي لهو بصمة دامغة على 50 عامًا من الدليل القاطع بالصورة والصوت والحركة والنداء الذي رج العالم كله (الله أكبر)، بأن المصري عصي على الهزائم بل لا يقبلها، وأن المصريون لا يفرطون في ذرة تراب واحدة، إلا على جثثهم، فالحياة فداء لبلد عتيد قديم قائد الدنيا ورافع راية العزة، ومن هنا يمكن القول بسذاجة العدو ومحدودية معرفته بالمصريين، وقد راهن عقب 5 يونيو 67 على أنهم مستسلمون، وأن القيادات خاضعة لمصير الهزيمة، بل إن تصريحات القادة الإسرائيليين تلونت بنبرات الغرور والصلف والاستخفاف بهمة أبناء مصر، وقدرتهم على أي تحرك أو حرب، بل إن في هؤلاء الإسرائيليين من رأى أن أمام المصريين مئة عام حتى يفكروا في أي قتال، وبالإخص الحرب مع إسرائيل.
ولأن هؤلاء الساذجين، لا يدركون أبعاد الشخصية المصرية، التي تشهد ميلاد نصر مؤزر من رحم الهزيمة، فالشارع الذي كان يغلي يصل نبضه للقادة، والضباط والجنود وقادة الميادين، جميعهم كانوا يتوقون للحظة، لحظة الزئير الذي هزت أرجاء الأرض، وانقض نسور البر والجو والبحر على الطفل المدلل للغرب، ليذيقه علقة الموت التي شيبته إلى اليوم، وعرف أنه لا يستطيع أن يمد مجرد بصره إلى ذرة في تراب هذا البلد الأمين،
ولا تبقى ذكرى النصر المؤزر المجيد فقط لدى أبناء مصر جيلًا بعد جيل، لكنها ستظل الندبة الداكنة والصفعة الموجعة لأبناء العدو أيضًا جيلا بعد جيل مع امتداد الأيام، وهنا نستحضر ما قالته جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل أثناء حرب أكتوبر في كتابها "حياتي": "ليس أشق على نفسي من الكتابة عن حرب أكتوبر 1973 "حرب يوم كيبور"، ولن أكتب عن الحرب- من الناحية العسكرية فهذا أمر أتركه للآخرين.. ولكنني سأكتب عنها ككارثة ساحقة وكابوسا عشته بنفسي وسيظل معي باقيًا على الدوام". وأيضًا "كان الرأي الذي التقى حوله الجميع أن الموقف العسكري يتلخص في أن إسرائيل لا تواجه خطر هجوم مصري- سور ي أما القوات المصرية المحتشدة في الجنوب، فلا يتعدى دورها القيام بالمناورات المعتادة!، وصولًا إلى "كان التفوق علينا ساحقًا من الناحية العددية سواء من الأسلحة أو الدبابات أو الطائرات أو الرجال.. كنا نقاسي من انهيار نفسي عميق.. لم تكن الصدمة في الطريقة التي بدأت بها الحرب فقط، ولكنها كانت في حقيقة أن معظم تقديراتنا الأساسية ثبت خطؤها فقد كان الاحتمال في أكتوبر ضئيلًا ".
ورغم مرور خمسين عامًا على هذا الضوء الممتد للنصر العظيم، ورغم الاحتفال به كل عامٍ وذكر أثره الطيب وتفاصيل منه، سيبقى هناك الكثير والكثير من قصص البطولات التي لا تنتهي، منذ حرب الاستنزاف وإنهاك العدو من بعد 67 وصولا، إلى الخط الترابي الذي ظن العدو أنه منيع ووصولا للعبور وقهر العدو نفسه والذي صدر صورة واهية بأنه لا يُقهر، ولكن على من يا هذا.. أنت في ملعب المصريين.