الحرب هى السياسة بوسائل أخرى، ولا تشذ الحرب الروسية - الأوكرانية عن هذا المعنى، والسياسة بين روسيا والغرب، تتصادم على المسرح الأوكرانى.
التصادم الفكرى والثقافى تحول إلى تناطح بالسلاح، وثمة ضحايا يسقطون من الطرفين، ونساء يترملن، وأطفال يفقدون آباءهم، وثمة قصص مأساوية فى هذا الجانب.
طالما تناولت روايات عالمية أجواء الحرب، وطالما خلدتها السينما، لكن ظلال الحرب نفسها، قد تكون أقسى من هدير المدافع فى الميادين، فهناك قصص التجسس والخيانة، تظهر رويدا رويدا بعد إسكات الرصاص.
هذه القاعدة تختفى فى الوقت الراهن، ففى خضم المعارك صار الكشف عن الجاسوسية والخيانة، عاديا ومطلوبا، وكأنه معركة فى قلب المعارك، يرغب طرفا الحرب فى إعلان النصر فيها، بغض النظر عن الآثار المؤلمة.
فى شهر أغسطس الماضى، حدثت واقعة غريبة فى الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث هرب الطيار مكسيم كوزمنيوف، بطائرته المروحية مى 8، وحط بها فى الأراضى الأوكرانية، يرافقه ضابطان روسيان هما: الملازم أول نيكيتا كيريانوف 28 عامًا، وخوشباخت تورسونوف 35 عامًا، وحين علما بمخططه قاوماه، ولم يستسلما للجنود الأوكرانيين، فقتلا على الأراضى الأوكرانية.
إنها قصة مأساوية، هروب مقاتل فى قلب الحرب إلى الجانب الآخر، والتسبب فى قتل رفاقه.
بعد أكثر من شهر، استقبلت مدينة برناوول فى سيبيريا جثمان كيريانوف، وهو ضابط وميكانيكى طيران، وأحد الاثنين اللذين قتلا خارج المعارك فى الميادين.
حسب اعترافات مكسيم، فإن زميليه بريئان، فقد قاوماه، وهو وحده الذى تلقى 500 ألف دولار فى عملية جانبية من عمليات الحرب السرية، تلك الحرب التى راح ضحاياها كتاب وسياسيون وصحفيون، وكأن هناك مسرحًا مختلفًا لحرب تبدأ من الثقافة، وتنتهى عند وابل الرصاص.
فى الحروب السابقة، كانت مثل هذه القصص لا تظهر فى أثناء دخان المعارك، بل تكشفها وثائق سرية بعد فترة من الزمن، وتتناولها بالإشارة أعمال سياسية أو أدبية أو وثائقية، أما الحروب الآن فهى حروب هجينة، تتفاعل فيها جميع الأسلحة، الإعلام، والثقافة، والشائعات، والحروب السيبرانية، وكأنها عجينة مخلوطة لكعك مسموم.
فى حروب هذه الأيام كل شيء تغير، المفاهيم، وأساليب المعارك، وصولا إلى مفهوم كشف الخونة أثناء أزيز الرصاص، وقصة مكسيم كوزمنيوف لا تشذ عن هذه القاعدة، فالطرفان، الروسى والأوكرانى، اعترفا بالعملية دون مواربة، أو دون إسكات للأحداث. إنه الألم للخائن والضحية فى حرب هيمنة، تديرها أطراف ذات ياقات زرقاء لامعة، تخطط وهى تحتسى قهوتها من وراء مكتب أنيق.
قتل الشاب نيكيتا كيريانوف، والشاب تورسونوف، دون أن يقاتلا فى الميدان، فقد وجدا نفسيهما فى قبضة قائد الطائرة والمقاتلين الأوكرانيين، فكيف سيكون وقع هذا الحادث الغريب على أطفالهما عندما يكبرون، وعلى الأمهات والآباء، بل كيف سيفكر مكسيم هذا فى أسرته بعد اكتشاف قصته المخزية؟ وكيف ستنظر إليه أسر الضحايا جراء فعلته المشينة؟ وماذا سيكتب عنه الروائيون بعد نفاد الذخيرة، وإسكات الموت؟