فى المترو مراقبة الناس لبعضهم تسلية عظمى .. العربات مزدحمة والجالسون جالسون فى صمت واتزان .. والواقفون واقفون فى جد وحزم رغم تلاصقهم، ممسكين بشدة بالمقابض المدلاة أو بالعمود الحديدي لحفظ توازنهم وعدم الانزلاق .. كلما صعد وافد جديد إلى العربة اضطربت الصدور، واصطدمت البطون، واستُخدمت الأكتاف للعبور والمرور، وتبادلت كلمات الاعتذار بالإنجليزية والعربية والعمية أيضا ( sorry، آسف، معلش).
موضوعات مقترحة
حركات التنقل وترقية الأماكن بين الركاب لا تتوقف أبداً، حتى ينتهز كل من الواقفين الفرصة ويحتل المكان الذي طال حلمه به منذ صعوده للعربة ... صديقى يجلس بجوارى وكان يبدو عليه أنه من أكثر الركاب وقاراً، إذا كان الوحيد الذي يرتدي بدلة صوف شتوية انيقة .. رغم أن هذا الصباح كان جميلاً ومشرقاً و يغري الإنسان بالمشي فى الشارع دون أن يختبئ من أشعة الشمس .. في المحطة الأولى صعدت فتاة قوامها مثل قوام الساعة الرملية، بوجه أنثوى وبشرة ملساء .. غرز صديقى كوعه في جانبي للفت انتباهي حتى كاد أن يخرق حجابي الحاجز .. والغريب أنه أعلن رأيه بصراحة وقال مستنكرا : ودى إيه اللى يخليها تركب عربية الرجالة، ما تروح تركب عربية السيدات ..
في المحطة الثانية صعد شاب، يرتدي قميص مفتوح يظهر عنقه القوى وشعيرات صدره الكثيفة بارزة من فتحته يتوسطهم سلسلة جنزير فضية وأخرى فى معصم اليد، ونوت المحاضرات راقدة تحت إبطه في إهمال .. صعد الشاب مبتسماً لا أحد من الرجال يعبأ به أو بابتسامته .. جاءت وقفة الشاب الصغير بجوار الفتاة الجميلة، وجاءت وقفتهم بجوار المقعد الذي أجلس عليه أنا وصديقي الغاضب . رمق كل منهم الآخر بنظرة سريعة لا هدف لها ولا معنى ولم تغير من الابتسامة التي صعدا بها شئ، بل لم يلاحظهما أحد من ركاب العربة سوانا ..
كنت أعاني الأمرين من صديقى فمنذ أن صعد واستقر بجانبنا، وقد احتل أكثر من ثلثى المقعد ولم يكف عن الحركة أبداَ ولا من التعليق بصوت مرتفع على الصاعد و النازل، حتى أنا لم أسلم من ملاحظاته على ملابسى وحذائى القديم ومن كثرة خجلي أدخلت أقدامي تحت المقعد لأريحه واريح نفسى . كان قد قرأ ما على هاتفى أضعاف ما قرأته أنا ولم ينقذنى من نظراته إلا مجئ الشاب الصغير والفتاة الجميلة فقد تركني تماماً وتحول إليهما .. الرحلة طويلة ولم يعد أمامي إلا أن أراقب الشاب والفتاة .. الموضوع فيه اعجاب إذن .. إعجاب موجه للفتاة بعينها وليس أعجاب أي شاب صغير بأى فتاة صغيرة .. وقد اتسعت ابتسامته حتى شمل الوجه كله .. أدركت أنه يريد أن يكلمها .. وهي مهمة لم تكن بالسهلة فربما ينظر مئات العابرين ويبتسمون لبعضهم البعض حتى تظهر المشكلة الحقيقة وهو أن يتكلما .. كان الشاب يبتسم في غموض وحيرة ويحرك رأسه ووجهه في أوضاعاً مختلفة ثم يسرح فجأة ويتأمل سقف العربة ويمسك بالعمود المعدني للعربة ثم يعاود النظر إلى الفتاة بتلك النظرات الخرساء الخاصة، سابحاً في ملكوت من صُنعه ... وقف المترو فجأة ثم تحرك وكعادة المترو إذا وقف ثم تحرك تحدث اصطدامات بين كل جار وجار وتلتقي الوجوه مبتسمة ومعتذرة، كذلك التقى وجه الشاب بوجه الفتاة و ابتسم معتذراً . أما صديقى فقد راح يتأفف من الحر وكما يبدو أنه استشعر بتطور الأمور حالاً فقد ترك خجله جانباً واستدار بوجهه كاملا إلى حيث يقفان وكأنه يشاهد مباراة هامة ... مع الوقت يزداد اعداد الركاب الواقفين وإذا بشاب ضخم يحول بيننا وبينهم، صوبنا أن وصديقى نحوه نظرات نارية تكاد تذيب كرشه وتخترقه لكى نستطيع العودة إلى متابعة المشهد . .. يبدو أن الشاب أحس بنظرات نتهمه فيها بالتستر على هذا الشاب وهذه الفتاة .. وسرعان ما أمره صديقى بصوت حاد : اتفضل حضرتك خش جوه العربية واسعة ... تحرك الشاب وهو يشكر صديقى على النصيحة لنعود مرة أخرى الى مسرح الأحداث ولكن للأسف وما خفت منه قد حدث، لقد تأخرنا كثيرا وكانت الأمور قد تطورت بسرعة وكان الشاب يتحدث مع الفتاة بصوت الواثق من نفسه .. وأخذها و نزل اقرب محطة بعيداً عن أعين المراقبين . كنا نشاهدهم من الشباك الزجاجي كالأطفال فى نزهة، تابعناهم أثناء تحرك المترو حتى اختفوا تماماً وانخفض ضوء المحطه وتبدل بظلام و عتمه النفق . رمق لى صديقى في صمت حتى جاءت محطتنا ونزلنا بصعوبه .. تكدس كبير من الركاب أدى إلى تعطل السلالم الكهربائية .. وسط الزحام واتجاهات الخروج والباعة الجائلين وقفنا أمام المحطة قليلا .
" كنا جيل غلبان " جملة قالها صديقى وهو ينظر إلى الأرض وبتنهيدة مسموعة، وبعدها حكى كيف نشأ فى أسرة متماسكة بالعادات والتقاليد، وأن من الأصول ألا يأخذ الناس على بعضهم بسهولة .. كان يرى أن المشكلة التي شغلته وشغلت أكثر شباب جيله أيام الجامعة وبعد التخرج ، إن قليلا ما تجد شابا يتقن فن المقدمات الطويلة كي يعبر عن إعجابه بفتاة . فكان صديقى يحب بنتا وهي جميلة ويراها كل يوم وتراه، ويجلس بجانبها في المدرج أو في الأتوبيس ويبتسم لها كثيرا ... وظل يحبها خمس سنوات بأكملها دون أن يجرؤ على مخاطبتها حتى ذهب إليها وألقى على مسامعها الجمل الخمس التي كان قد جهزها طيلة أعوام الدراسة الخمسة، ثم استأذن منها وغادر حتى قبل أن تفتح هي فمها وترد .... وكأن هناك حائطا زجاجيا سميكا لا يدرى أحد من أقامه ولا يجرؤ أحد على كسره .... سكتنا لدقائق وأنا أفكر فى جدوى كلامه وأن صديقى قد أصيب بالنستولوجيا وهو الحنين إلى أشياء حدثت فى الماضى فى حين أنه مازل ينتظر حدوثها مرة أخرى فى المستقبل ... أثناء المرور فى شارع طلعت حرب استوقفنى أحد المحلات التجارية، لأسال عن شئ لمجرد الفضول ... سمعنا أغنية تحمل فكرة يحقق الشئ فيها وتظهر النتيجة بشكل فورى، يقول القائل " ضحكت يعنى قلبها مال وخلاص الفرق مبينا اتشال ".
ليرد صديقى علي الأغنية، موجها لى السؤال " يعني هي كان لازم تضحك ؟ "
وضحكنا ... والبائع واقف يتعجب .