شاهدتها في إطارها الفخم معلقة في إحدى زوايا حجرة الضيوف بمنزل جدتي لأمي، كنت في سن صغيرة لم تتح لي بأي حال من الأحوال الفرصة للسؤال عن هذا الرجل المهيب الذي بدا شامخًا في صورته وهيئته، فمن يا ترى يكون هذا الرجل الذي لم أره من قبل حاضرًا بين أفراد عائلتي؟
تمر الأيام ثم تتوقف عند حدث أليم رأيت فيه ما لم أره من قبل حيث شاهدت النساء تتوشحن بالسواد، ويعم البكاء والصراخ كل أرجاء المكان بدا لي الأمر جلل، فلم يمر هذا الحدث على منزلنا فقط، بل اكتست بملامحه الحزينة كل معالم الشارع الذي كنت أسكن فيه، فهناك من كان من فرط البكاء يفقد وعيه تمامًا ويسقط على الأرض.
تسابقت الأسئلة في مضماري وتكدست علامات الاستفهام في رأسي حتى أتى هذا اليوم الذي تمكنت فيه أمي من قراءة أسئلتي وترجمت بإدراكها وسرعة بديهتها هذا الكم من الإشارات الصامتة والعالقة في ذهني، أشارت إلى هذه الصورة المعلقة على الجدار الذي ربما كان يبكي هو الآخر على رحيله، وقالت مامعناه: نحن يا صغيرتي جميعًا نبكي صاحب هذه الصورة؛ لأنه مات ورحل من الأرض إلى السماء إنه الرئيس "جمال عبدالناصر" رئيس الجمهورية.
لم أفهم معنى رئيس حينها، ولم أدرك بالطبع معنى جمهورية بالمعنى الحرفي لها، لكنني حفرت هذا الاسم في ذاكرتي، حتى جاء يوم التحقت فيه بمدرستي الابتدائية، اصطحبتني أمي ذات يوم إلى المدرسة لتدفع لي المصروفات وتقوم باستلام الكتب لي، فوقعت عيناي في مدخل المدرسة على تمثال نصفي صنع من النحاس ووضع على قاعدة من الجرانيت الوردي.
تسمرت حينها وأنا أوجه نظري نحو هذا التمثال ذي الملامح التي لم تستطع طيها ذاكرتي، فهي حاضرة بقوة هذه المرة، فأشرت إليه وهممت بنطق اسمه، ولكن أمي بادرتني بسؤالها لي عن اسمه فأجبتها بكل ثقة إنه الرئيس "جمال عبدالناصر" الله يرحمه، دمعت عيناها وهي تحدق به وتقول بأنها كانت ترى فيه أبًا ثانيًا لها بعد رحيل والدها وهي لم تزل بعد صغيرة في السن.
أسبوع مر على هذا الموقف، ثم بدأت الدراسة في أول أيام شهر أكتوبر، إن هذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها على مقعد في حجرة الدراسة، وأنظر فجأة فوق سبورة فصلي فأجد صورتين معلقتين إلى جوار بعضهما البعض، الأولى صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والثانية للزعيم الراحل محمد أنور السادات.
قبل ساعات من كتابتي كنت أشاهد برنامجًا على قناة "القاهرة الوثائقية" التي تمثل لي كنزًا عظيمًا به نافذة مفتوحة باستمرار أطل منها على الماضي، وكان الحديث عن الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ "محمد حسنين هيكل"، وعن عمق علاقته بالزعيم الخالد "جمال عبدالناصر".
وجدت الأفكار تلاحقني والذكريات تداهمني، وتصدر أوامرها لي بالكتابة في الحال عن هذه الحقبة الزمنية التي لم أدركها تمام الإدراك في وقتها، ولكني استرجعتها وأسترجعها في كل عام عند مشاهدتي للعديد من الأحداث التي شهدتها مصر الحبيبة في هذه المرحلة.
أكثر المشاهد تأثيرًا كان مشهد جنازته الشهيرة حين شاهدت هذا الفيضان الهادر من البشر، وهؤلاء الناس الذين جاءوا ليودعوا زعيمهم إلى مثواه الأخير، رحم الله هذا الرجل الذي امتلك القلوب بوطنيته وسعيه الدائم من أجل إرساء أسس ودعائم القومية العربية.