يُضرب المثل دائمًا بالشعب الياباني في القدرة على تحمل المصاعب والشدائد، مهما كانت أحجامها وتعقيداتها، ويتحلى بالصبر الجميل والطويل في مواجهتها، لحين التغلب عليها ورفع راية النصر عاليًا، لكنه يواجه حاليًا مشكلة ديموغرافية مصيرية يقف أمامها عاجزًا، حتى الآن، ويبحث باستماتة عن مخرج آمن وفعال منها، قبل أن تتبخر وتتسرب من بين يديه الفرصة الأخيرة السانحة لبلوغ هذا الهدف الغالي.
المعضلة القديمة الجديدة، باختصار شديد، أن تعداد اليابان يتناقص بشكل مريع، بسبب انخفاض معدل المواليد البالغ في التوقيت الراهن ١٫٣ طفل لكل امرأة، وهو أقل من معدل الاستبدال السكاني الذي يبلغ ٢٫١ طفل للسيدة الواحدة، وخلال العام الماضي استقبلت البلاد ٧٩٩٫٧٢٨ ألف مولود جديد، وهو ما وصف بأنه الأدنى، منذ بدء تسجيل المواليد في عام ١٨٩٩.
إذا استمر الحال على هذا المنوال سيصل عدد سكان اليابان إلى ١٠٠ مليون نسمة بحلول ٢٠٥٠، و٨٦٫٧ مليون عام ٢٠٦٠، وتلك أنباء مقلقة وغير سارة بالمرة لصناع القرار في طوكيو، نظرًا لانعكاساتها السلبية على الاقتصاد والأمن القومي، مع تزايد شيخوخة المجتمع، إذ إن واحدًا من بين كل ١٥٠٠ ياباني يبلغ من العمر ١٠٠ عام، أو أكثر، ولا يوجد عدد كاف من الشباب لرعايتهم والسهر عليهم، بينما تتقلص القوى العاملة اللازمة لسد الفجوات في الاقتصاد الراكد، وهو ما يقلل ويضعف من إمكاناتها العملية على المنافسة الاقتصادية والعسكرية.
يا له من وضع مزر يضيق، بل يخنق الخيارات والبدائل المتاحة، للخروج منه بسلام وأمن، لأنه ما لم يتحمس اليابانيون لفكرة إنجاب أطفال أكثر، فلن يكون هناك سوى فتح أبواب الساموراي الياباني للهجرة من كل صوب وحدب وبدون كوابح ومعايير مشددة يحرصون عليها حرصًا بالغًا، وإحداث تغيرات جذرية في التركيبة السكانية بمجتمع يفتخر دومًا بتجانس وتفاهم عناصره الذين يقفون على أرضية ثقافية ودينية واجتماعية مشتركة تجعلهم يفهمون بعضهم البعض من نظرة عين.
وما يزيده تعقيدًا وتأزمًا أنه لم تجد وتفلح كل برامج التحفيز المعلنة من قبل الحكومات اليابانية إبان السنوات الماضية في حلحلة الأوضاع الحرجة، ولو قليلا، حيث عرضت حوافز مالية عند ولادة الطفل الثاني، ودعم رعايته في المدن وبالمراحل التعليمية المختلفة، وتحسين مرافق الإسكان للأسر التي لديها أطفال، وتعيين وزير بالحكومة مسئول عن معالجة ظاهرة انخفاض المواليد، كلها إجراءات اصطدمت بحائط الممانعة والصد من جانب المواطنين العاديين، لماذا؟
حدث الاصطدام العنيف لكون الإغراءات والحوافز أضعف قوة وتأثيرًا من الأسباب الكامنة خلف الإعراض عن الإنجاب، وتجعل اليابانيين لا يلقون بالاً واهتمامًا بها، أما عن المسببات فإنها ترتبط بجوانب مفصلية، منها ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث تعد اليابان من أغلى دول العالم، في حين أن الزيادات في الأجور بطيئة، وحوالي ٤٠٪ من اليابانيين يعملون بدوام جزئي أو متعاقدين ـ متوسط الدخل الشهري يبلغ ٣٢٠٠ دولار أمريكي ـ.
كما تغير نمط الحياة باليابان، وأصبح مواطنوها أكثر انخراطًا في العمل والدراسة، مما يقلل من فرص الزواج وتكوين أسرة، بالإضافة إلى تزايد أعداد السيدات العاملات اللاتي يفضلن الاستقلال بحياتهن بعيدًا عن التزامات وواجبات الزواج وتربية الأولاد، لا سيما في مجتمع لا يزال يفرض على الزوجة على سبيل المثال الاعتناء بوالد ووالدة الزوج في كبرهما، ومن ثم يخترن عن طيب خاطر البقاء عازبات والاستمتاع بحريتهن وانطلاقهن في الحياة دون قيود وعراقيل.
ويقول غالبية اليابانيين الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٤ عامًا إنهم يأملون في الزواج في مرحلة ما، لكنهم يخططون لإنجاب أقل من طفلين، بينما تبدي نسبة متزايدة منهم عدم رغبتهم أصلاً في الزواج، وفقًا للدراسات الحديثة التي أجرتها الحكومة اليابانية، كذلك فإن هؤلاء الشباب فترت عزيمتهم بسبب فرص العمل القاتمة، وثقافات الشركات التي لا تتوافق مع عمل كلا الوالدين، خاصة النساء في بلد يعد الأقل في المساواة بين الجنسين، وعدم منح الآباء إجازة أبوة.
وعكس هذا الواقع المؤلم تصريح لافت لوزير سياسات الأطفال الياباني قال فيه: "نريد أن نصنع مجتمعًا يمكن للأجيال الشابة فيه أن تتزوج وتنجب وتربي كما يحلو لها، وندعم سعي الأفراد لتحقيق السعادة المنشودة.
يوجد سبب آخر يتمثل في تزايد معدلات الوفيات، حيث بلغت ٩٫٢٦ شخص بالعام الجاري، أي من بين كل ألف ياباني يموت أكثر من تسعة أشخاص، في الوقت الذى ارتفع فيه متوسط العمر إلى ٨٤٫٢ عام، وهو الأعلى عالميًا، وانتشار الأمراض المزمنة، وبالتالي يلقي بأعباء أكبر على نظام الرعاية الصحية والتقاعد، ويترافق مع ما سبق الهجرة السلبية، إذ إن عدد المغادرين اليابان يفوق بكثير الوافدين إليها.
بناء عليه فإن اليابان ليس لديها رفاهية الوقت لإضاعته على أمل حدوث معجزة تقود لانفراجة بالأزمة الديموغرافية، وترى أنه ربما تكون الأعوام القليلة المقبلة فرصتها الأخيرة والحاسمة لتبديل اتجاه انخفاض المواليد نحو الزيادة، وإلا فإنها ستكون عرضة لسيناريو قاتم ومظلم لا تحب الولوج إليه.