من السهل لدى الباحثين معرفة كم تكون المعاناة مع الوقائع التاريخية التي كانت متاحة في زمن حدوثها، ولم تعد كذلك في الزمن الراهن، لأن أحدًا لم يهتم بتوثيقها وإنشاء ملفات معتبرة لها.
أكثر من ذلك يبدو من المحزن رحيل البعض من دون أن يترك كلمة أخيرة يمكن استعادتها من أجل الذكرى والحقيقة وتحدي النسيان.
ويبدو أن الحفاظ على ذاكرة الأمة يحتاج إلى ما هو أكثر من الذكريات الشخصية، التي تطوف بالذاكرة، وتتلمس طريقها عبر الحكايا الشفهية، إلى عمل مؤسسي، يسجل ويوثق ويحفظ، من أجل جيلنا والأجيال القادمة.
هذا التحدي يخص المؤسسات كافة في مصر والنقابات المهنية التي يمكن عن طريق توثيق ذاكرة أعضائها، الحصول على مادة أولية هائلة، تتحول مع الأيام إلى مراجع، وتستحوذ في نفس الوقت على اهتمامات المعنيين من باحثين ومحترفين وهواة.
ويشتغل اتحاد الكتاب في مصر حاليًا على مشروع طموح لدعم ذاكرة أعضائه، وذاكرتنا الثقافية الجمعية، تحت عنوان "الذاكرة البصرية"، وبدأ قبل أشهر في عمل تسجيلات بالصوت والصورة لعدد من الكتاب الكبار، الذين تتجاوز أعمارهم السبعين عامًا، وسجل خلال عامين مع أكثر من مائة وخمسين عضوًا.
ويسابق المنفذون للمشروع الزمن للاتصال بالكتاب والتسجيل معهم (ساعتين لكل كاتب) في مقر الاتحاد بالزمالك.
كانت فكرة رئيس الاتحاد د.علاء عبدالهادي، تتلخص في ضرورة التسجيل مع الكتاب والشعراء الذين تجاوزوا الثمانين، ثم نزولا إلى الخامسة والسبعين، ثم الثالثة والسبعين... وهكذا.
وهو ما يعتبره المشرف على المشروع الشاعر ناصر دويدار حالة من حالات التوثيق لأدباء من الممكن أن يرحلوا ولا يسمع أحد عنهم شيئًا.
هؤلاء من باقين وراحلين من الكتاب كان وما زال لديهم تأثير في حياتنا، ثقافيًا، وأدبيًا، وبعد حين تدرك الذاكرة أسماء قليلة وتغفل الكثير.
وعند البحث ربما لا نجد لكثير من الشعراء والكتاب شريطًا مصورًا، وربما لا نجد شيئًا على الإطلاق، وقد تفيد محركات البحث أحيانًا، وفي أحايين أخرى لا نجد مادة كافية عن مبدعين كثر، بينما نحاول أن ننقل للأجيال القادمة رسالة تنبيه بأسماء بالغة الأهمية، ربما لم تأخذ حظها من الذيوع.
وإذا كان المشروع في إطار القدرات الذاتية لاتحاد الكتاب، فإنه يجب دعمه والإحاطة بمحتواه والاستعانة بهذا المحتوى لنشره في الوقت المناسب في محطات التليفزيون، والمواقع، ليخرج من خلف الستار، ويكون متاحًا، بالطرق القانونية المناسبة.
وأظن أن القائمين على المشروع يدركون أهمية، ألا يقتصر ناتج عملهم على أرفف الأرشيف.
ولقد لاحظت بينما كنت في زيارة لمقر اتحاد الكتاب أخيرًا حجم الجهد المبذول في إقناع الأعضاء ممن هم فوق السبعين، وغالبيتهم شاركوا عن إيمان وقناعة وثقة في الاتحاد، والجهد الكبير في الإعداد، من فريق العمل: د.ناهد عبدالحميد، ود.إكرام هلال والروائية السكندرية منى سالم.
تجربة مشروع الذاكرة البصرية في اتحاد الكتاب تستدعي على الفور الأمل في أن يكون لكل نقابة مهنية أو مؤسسة وطنية مشروع مماثل، لدعم ذاكرة الوطن كله.
وتعج مصر باتحادات ونقابات وجمعيات ونوادٍ، لأعضائها الكبار تجارب خصبة ونتائج وخلاصات تستحق الاطلاع عليها، ليس فقط لتدعيم شعور الحنين العام إلى الماضي، ولكن للاستفادة من التجارب الهائلة، والتاريخ الذي يحمله كل شخص على ظهره، وبالتالي سد ثغرات في المعلومات التي قد لا تتوافر للدارسين والمهتمين والشغوفين بسهولة، أو بأسلوب وقانون ينظمها.
وربما يواكب إعداد "الذاكرة البصرية" لأعضاء اتحاد الكتاب ممن هم على قيد الحياة، وقد أُقترح محاولة إضافة أسماء ممن رحلوا بمساعدة أصدقائهم وعائلاتهم، ما نشهده من مشروعات جهاز التنسيق الحضاري في "عاش هنا"، وتحديد طرز البنايات القديمة، ومشروع توثيق "ذاكرة الأزهر الشريف"، ومشروع "التوثيق الرقمي لجامعة الدول العربية"، ومشروع "توثيق تراث مدينة سيوة"، ومبادرة "ذاكرة المدينة" التي طرحتها وزارة الثقافة، وتوثيق تاريخ قناة السويس.. وغيرها؛ مما يؤهلنا للدخول بجدية في عصر من التوثيق قبل أن نترك الكثير من تفاصيل مشوشة خلفنا.