تثبت الأيام والوقائع الموثقة في سطور دفتر التاريخ الإنساني؛ حتمية الوجود المصري في كل المؤتمرات والمنتديات السياسية والاقتصادية والعلمية والفنية والثقافية؛ وهذا ليس من قبيل المشاركة كدولة ضمن دول العالم؛ ولكن تأتي مشاركتها باعتبارها الجذر الأصلي ـ والأصيل ــ لشجرة الحضارات الممتدة على طول أحقاب الزمان.
ولهذا.. جاءت مشاركة "مصرنا المحروسة" في فعاليات "منتدى بكين" عاصمة الصين الشعبية؛ هذا البلد العريق بجذور شجرة حضارته، التي تتلامس جذورها مع جذور شجرة الحضارة المصرية القديمة والفرعونية!
وكان من الطبيعي أن تأتي تلك المشاركة؛ نظرًا للعلاقات الطيبة بين البلدين عبر التاريخ؛ ويُذكر أن الرئيس عبدالفتاح السياسي؛ قد زار العاصمة الصينية أكثر من ست مرات في خلال السنوات العشر الفائتة.
ويقول أصحاب الخبرة سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا وثقافيًا: إنه برغم الاختلافات القائمة بين الحضارتين من حيث البيئة الجغرافية والبشرية؛ إلا أنهما يشتركان معًا في الكثير من المظاهر الثقافية والحضارية؛ والهوية الأصيلة.
كما أن لديهما أكبر مكون عقائدي؛ حيث اشتركا في بعض سمات المعتقدات الدينية من حيث تعدد الآلهة؛ والاعتقاد في البعث والخلود والثواب والعقاب؛ كما تميزت الحضارتان بوجود مكون ثقافي متعدد من حيث المصادر والمظاهر والخصائص الثقافية التي ميزت كلا البلدين.
ونظرًا لوجود هذه الخصائص والسمات الحضارية المشتركة؛ كان من البديهي ـ ولمصلحة الشعوب المتطلعة إلى التعايش السلمي والحضاري في الحاضر والمستقبل ـ كان لابد من العمل على تقوية وتعميق جذور أشجار العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية بين البلدين؛ كي تتحقق النتيجة المرجوَّة المستهدفة لتلك البلدان العريقة.
وفي صدد تعميق وتأصيل تلك العلاقات التاريخية؛ كان الحضور البارز فوق أكبر منصة دولية لتبادل الخبرات التنموية؛ وتعزيز التبادل الثقافي والمعرفي؛ جاءت مشاركة الدكتورة "نيفين الكيلاني" وزيرة الثقافة المصرية، في افتتاح فعاليات الدورة الثانية من "مُنتدى بكين الثقافي"، وتدور فعاليات الدورة الثانية منه حول موضوع "توريث ثقافة متميزة وتعزيز التبادل والتعاون الثقافي"؛ حيث قالت في الكلمة التي ألقتها في الجلسة الافتتاحية:
"...تُعد مشاركتنا في هذا المنتدى استمرارًا وترسيخًا للعلاقات الثقافية التاريخية المتميزة التي تجمع بين البلدين؛ حيث شهدت العلاقات المصرية - الصينية تطورًا مستمرًا في كافة المجالات، منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 1956؛ وكانت العلاقات الثقافية حلقة وصل أساسية بين بلدينا الصديقين اللتين تشتركان في كونهما من أقدم حضارات العالم الساعية لإحلال ثقافة السلام والمنفعة المتبادلة واحترام جميع الثقافات...".
"... إن مصر كانت أول دولة في إفريقيا والشرق الأوسط تفتتح قِسمًا لتدريس اللغة الصينية في جامعاتها، وذلك بجامعة عين شمس عام 1958، كما أنشأت الصينُ في عام 2002 أول مركزٍ ثقافي لها في إفريقيا والشرق الأوسط بالقاهرة، بالإضافة إلى استضافة مصر للمقر الإقليمي للشرق الأوسط لكل من: "وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا" ومجلة "الصين اليوم" والعديد من وسائل الإعلام الصينية المرئية والمسموعة والمقروءة، كما أن مصرَ هي أول دولة عربية انفتحت إعلاميًّا على الصين عندما أقامت مكتبًا لوكالةِ أنباءِ الشرق الأوسط في بكين في عام 1996".
وقبل أن أسترسل في الحديث عن فعاليات "منتدى بكين"؛ دعوني ــ وهذا واجبي من واقع مسئوليتي الوطنية والأكاديمية تجاه الأجيال الجديدة ــ أذكِّر تلك الأجيال بأن جمهورية الصين الشعبية قامت في أكتوبر من العام 1949؛ ونجحت ثورة يوليو في العام 1952 لتتلاقى توجهات البلدين في ضرورة التصدي والدفاع عن قضايا العالم الثالث؛ وليعلن الزعيم الراحل "جمال عبدالناصر" اعتراف مصر بالجمهورية الصينية؛ لتكون أول دولة عربية وإفريقية تنجح في إقامة علاقات دبلوماسية معها؛ وكانت تلك الخطوة الثورية الجريئة ـ وسط مناخ وطغيان الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا ـ نقطة فارقة في تعضيد العلاقات المصرية ـ الصينية؛ إلى يومنا هذا؛ ولتثبت هذه العلاقة القدرية قدرتها على مواكبة التحولات الدولية والإقليمية؛ لأن الهدف واحد والإستراتيجية واحدة ومتوافقة من أجل إحلال السلم والسلام في أرجاء العالم كافة.
يا أجيالنا الصاعدة ومستقبلنا المنشود في الارتقاء إلى صدارة العالم المتحضر؛ إن ما يحدث على الساحة هو نتاج طبيعي لتلاقح الحضارات القديمة الممتدة عبر التاريخ؛ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبالعودة إلى حصاد "منتدى بكين"؛ وهو الحصاد المنتظر من هذا اللقاء الدولي الكبير؛ حيث تمت ــ بمعرفة وحضور وزيرة الثقافة المصرية ــ مناقشة أطُـر التعاون المُشترك بعدد من المجالات الثقافية والفنية المتنوعة، والتي يجدر التركيز عليها خلال الفترة المقبلة ضمن فعاليات ما تم تسميته بــ "التقاء الفنانين على طريق الحرير"؛ ومنها الصناعات الثقافية والإبداعية؛ وحفظ وحماية التراث الثقافي؛ ونقل الخبرات، وإتاحة برامج التدريب المشتركة بالمجالات المتنوعة؛ إضافة إلى مناقشة استمرار تنفيذ مجموعة من المشروعات والأنشطة الثقافية والفنية.
كان من الأهمية بمكان التنويه؛ لما أشارت إليه وزيرة الثقافة المصرية.. إلى قيام وفدين من وزارة الثقافة المصرية بزيارة الصين؛ في زيارتين منفصلتين تم تنظيمهما خلال الأشهر الستة الأخيرة؛ بهدف التعرف إلى تجربة الصين الرائدة في مجالات الإدارة الثقافية وتطوير الصناعات الثقافية من خلال مجموعة من ورش العمل وزيارة بعض المؤسسات الصينية ذات الصلة.
وختامًا لايسعنا جميعًا إلا أن نتوجه بالشكر والامتنان والعرفان؛ للقيادة المصرية الوطنية المخلصة؛ التي تبذل الجهد في سباقٍ مع الزمن؛ وتسارع التقنيات المعلوماتية والتكنولوجية؛ بالسعي للاستفادة من تجارب الدول المائزة في مجال الثقافة والإبداع؛ ليكون الخير الوفير والحصاد لثمرة هذا المنتدى عائدًا على مصرنا المحروسة نهضويًا وفكريًا وثقافيًا فهو قمة المبتغى.
* أستاذ اللغويات والتأليف والكتابة الإبداعية بأكاديمية الفنون ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق وعضو اتحاد كتاب مصر