انبرى كثيرون، إثر فاجعتى زلزال المغرب المدمر، وفيضانات ليبيا الكاسحة للتنظير والحديث، جازمين أن الكارثتين ليستا طبيعيتين وأنهما مصطنعتان على يد بشر، وراجت على وسائط التواصل الاجتماعى منشورات وفيديوهات عديدة تؤكد أن الولايات المتحدة تمتلك سلاحًا سريًا خارقًا اسمه "هارب" يتولى عملية إحداث تقلبات وخلخلة فى طبقات الأرض السفلية، مما يتسبب في وقوع الزلازل ومعها الأعاصير.
ما يدهشك أن نظرية المؤامرة ومشتقاتها تجد آذانًا مصغية، وتبدى قبولها واقتناعها بما يسوقه مروجوها من حجج وشواهد، دون احتكام لمنطق وبراهين علمية، أو التروى قبل استصدار أحكام قاطعة لا يرقى إليها الشك أن ما جرى فى بلدين شقيقين، هما المغرب وليبيا، مقطوع الصلة والمنبت بجبروت الطبيعة وعنفوانها، التي لا سلطان لأحد عليها، وأنه مخلق بشريًا، وكأن الزلازل والبراكين والعواصف وغيرها صنف من أصناف الطعام الجائز إعدادها بسهولة داخل معمل، أو بمطبخ المنزل!!.
أفهم أن تلقى هذه النظرية الغريبة بعض القبول للحظة عابرة، لدى ذوى الضحايا الذين فقدوا أحباءهم وأصدقاءهم وجيرانهم وقت معاناتهم من صدمة متوقعة وهزة عنيفة تالية لتعرضهم لزلزال وإعصار رهيبين عاتيين، قبل عودتهم لصوابهم ورشدهم ورؤية ما وقع بعين واعية مدركة لحقائق ومعطيات الواقع المحيط، والإنصات إلى ما يقوله ويقرره أهل العلم والاختصاص، وليس محدودو المعرفة والغارقون في أوهام وضلالات عبثيات المؤامرات ومخلفاتها.
لم يفطن المناصرون والداعمون "لنظرية المؤامرة" أنهم شيدوا بنيانهم على قواعد هشة للغاية غير قابلة للصمود بثبات ثانية واحدة أمام الحقيقة، ومن بينها نشر فيديو زعموا أنه التقط قبل ساعات قليلة من تعرض ليبيا لإعصار "دانيال"، ويظهر فيه شكل يشبه القوس الأبيض، حتى يبرهنوا على أن "هارب" يقف خلف حدوثه.
لكن غاب عنهم وعن حوارييهم أن التكنولوجيا الحديثة كفيلة بكشف الغث من السمين، ودحض الأباطيل، لأن هذا الفيديو صور أصلا فى أوكرانيا العام الماضى، بعد تعرضها لغارات روسية، وتمخض عنها القوس الأبيض المشار إليه أعلاه.
أما المتهم "هارب" فقد توقف البرنامج عام ٢٠١٥، وعمله كان يرتبط أساسا بدراسة الغلاف الأيوني عبر بث ترددات قوية تماثل ترددات الإذاعة، ومهما بلغت هذه الترددات من قوة فإنها عاجزة تماما وكلية عن إحداث كوارث طبيعية.
ولو افترضنا جدلا أن الولايات المتحدة بقدراتها وإمكاناتها العلمية الجبارة والواسعة تستطيع بواسطتها استهداف مَن تريد بزلزال وإعصار، فلماذا لم تمنعها عن بلدها، وتقي مواطنيها جرائرها وآثارها المروعة، أو تخفف من حدتها، إذا تعرضت لها الدول الصديقة المتحالفة معها؟!
فضلا عن أن العلماء الثقات يؤكدون استحالة اصطناع الكوارث الطبيعية، ويضربون المثال بالزلازل التي تحدث لأن الحركات البطيئة والمستمرة للصفائح التكتونية تتسبب في تراكم الضغوط على طول الصدوع في القشرة الأرضية، ويبدأ الزلزال في بقعة صغيرة على الصدع، والبشر غير قادرين على فعل ذلك، وجل ما يقدرون عليه اختراع أجهزة لقياس قوة الزلازل والتحذير أحيانا من احتمالات حدوثها.
وإن كنا حقا ننتوى مناقشة دور البشر ومسئوليتهم عن إغضاب الطبيعة، فالشاهد أمامنا ما ارتكبناه من أخطاء على مدى عقود، وتلاعبنا بالتوازن البيئي، مما سبب ظاهرة الاحتباس الحراري التي تجاوزناها بدخولنا عصر الغليان، حسبما أعلنت الأمم المتحدة قبل أسابيع، فنحن أساتذة في العبث والتخريب لمحيطنا، من أجل المكاسب المادية وإرضاء لنهمنا وجشعنا، هذا ما يستحق تناوله والتركيز عليه، والتعلم منه، وليس خزعبلات وهلاوس نظرية المؤامرة التي تغيب العقل وتسحقه، وتمهد السبيل للافتراءات والجهل المطبق.