18-9-2023 | 12:02

الحياة وإن طالت قصيرة، ولكل منا احتياجاته وأهدافه وأحلامه، وقد سخرنا الله لبعضنا البعض.

ولكن هنا نقع أسرى لجدلية خالدة بين العطاء بلا مقابل، واستنزاف النفس، أو كون العلاقات الإنسانية لابد أن تكون دائرية "أخذ وعطا" وإلا فسوف نتحول الى كائنات محبطة ومكبلة بالأعباء والخذلان والإحباط المتكرر.

ولو أمعنا النظر في أصل المعنى، فإن الإنسانية قائمة على العطاء وليس على الأخذ، فأنت تعطي وقتك وجهدك ومشاعرك مقسمة لمن حولك؛ سواء كانوا أهلك أو أصدقاءك أو عملك ووطنك، ولكن هناك بعض الأشخاص يمتلكون موهبة خاصة في المنح وتقديم المساعدة والدعم لمن حولهم دون انتظار مقابل، ولديهم قدرة مذهلة على هذا.

وعلى الجانب الآخر فهناك أشخاص يعطون ما يملكون بشكل مشروط أو مقنن، وكأنها فواتير مؤجلة الدفع وهؤلاء الغالبية السحيقة من البشر، فغالبًا ما نسمع جملة "أنا ياما إديت وما تقدرتش" أو "أنا طول عمري بقدم للناس ولما بحتاج لهم مش بلاقيهم"، حتى في العلاقات العاطفية كثيرًا ما يتم تبادل جمل على طريقة "أنا بعمل كتير وما بتقدرش"!!

ولو تعمقنا في أغوار النفس لوجدنا أن من لديه هذه الملكة من عطاء ومساعدة يمتلك بالتوازي متعة خاصة فيما يفعل.. نعم، فالأم والأب مثلا لديهم فيض من العطاء تجاه أبنائهم دون انتظار مقابل، وأشخاص أخرى تفعل هذا بمحبة وأريحية، ولكنهم أقلية في الحياة، أما هؤلاء الذين يقدمون لنا العطاء على شكل ديون مستحقة الدفع فهم يثقلون عاتقنا بما لا نطيق، فليس كل إنسان قادرًا على المنح ويتحول إلى شخص مكبل بالديون والمجاملات، وهنا تصبح النعمة نقمة.

وتذكر أنك كلما أعطيت بلا مقابل رزقت دون توقع، وكلما سعيت لإسعاد الآخر، رزقك الله بمن يسعدك، وإن لم يكن نفس الشخص فأنشد دائمًا العطاء لا الأخذ.

الجدير بالذكر أن أكثر الأدباء الذين تحدثوا عن هذه الحالة هو الكاتب اللبناني جبران خليل جبران؛ حيث قال:

نحن نعطي لنحيا، لأن الامتناع عن العطاء، سبيل الفناء... إن تعطِ مما تَملِكُ فإنك تعطي القليل، أما إن تَهِبَ من نفسِك فهذا عين العطاء... 

جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته... لا تنسى وأنت تعطي ان تدير ظهرك عمن تعطيه كي لا ترى حياءه عاريًا أمام عينيك... 

الجود أن تعطي أكثر مما تستطيع، والإباء أن تأخذ أقل مما تحتاج إليه... يحدث أن تسعد الآخرين بكلام أنت من تحتاج لتسمعه. 

وأرى أنك قد تصل إلى أرقى درجات الإنسانية حين تصغي في حضرة صمت الآخر إلى احتياجاته، وتسعى لتلبيتها دون إهدار للمشاعر أو إشباع للفضول، وربما الغرور، فأحيانا نفضل الاستماع إلى عبارات الاحتياج، أو تلقي أسباب ومبررات من الغير حتى تتفجر بدواخلنا طاقات العطاء، وهذا سلوك غير محمود على الإطلاق، والأفضل أن نقدم ما نستطيع تقديمه دون سؤال وخصوصًا حين تكون العلاقة حميمة أو مع الأشخاص القريبين منا، فالبعض لا يطيق سؤال الناس أو البوح بضعفه واحتياجه، فلنحترم الفروق الفردية والحسية.

وهذا لا يعني أنه من الضروري جدًا حسن التقدير لمثل هؤلاء، ولكنه تقدير غير مفروض ولا مشروط، فالزوجة التى تقف إلى جوار شريك حياتها تحتاج من وقت لآخر كلمات تقدير، ولكن إن لم تحصل عليها فلا يجوز أن تطالب بدفع فواتير حياتها التي أفنتها، ويتحول الأمر إلى دائن ومدين، والأم التى ترملت وقامت بتربية أطفالها اليتامى لا يجوز أن تطالبهم بالتعويض فيما بعد، فهذا هو دورها الطبيعي وهي من قامت به عن حب منبثق من فطرتها، ولكن البعض يرددن "أنا فنيت شبابي علشانكم وضيعت عمري عليكم وما اتجوزتش علشان أربيكم" وما إلى ذلك.. فالأم في الأصل تستحق كل تقدير وامتنان؛ سواء كانت مشاركة مع الأب أو بمفردها، ولكن الإحساس المفرط بالتضحية يصيب المضحي بالإحباط المدقع والأسى، وحينها يتحول العطاء من المحبة إلى الخذلان بفعل الانتظار على طريق العشم اللامتناهي.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: