تصيبنا الدهشة في أحيان كثيرة تجاه بعض الأشخاص إثر مواقف معينة مرددين بامتعاض: إزاي فلان يطلع منه ده كله؟ وأحيانًا أخرى نقف على جملة: ولا يبان عليه!
وعلم النفس العميق يؤكد أن دواخلنا ليست بالضرورة واضحة وليس من السهل اكتشافها، فنحن غالبا نرجو الخير ونسعى إلى العطاء ونبحث عن الحب، ولكن الحقيقة أننا حين نصل إلى كل هذه الاحتياجات أو بعض منها، تصيبنا حالة من الملل الحتمي وعقدة الاعتياد وربما تتولد بداخلنا اتجاهات سلبية تجاه نفس الاحتياجات، وربما الأشخاص، وهذا ما أكده الكاتب المتفرد يوسف السباعي قائلا: إن شر ما في النفس البشرية هي أنها تعتاد الفضل من صاحب الفضل، فلا تعود تراه فضلا.
فكم من بشر عاشروا بعض سنوات طويلة واكتشفوا فجأة أنهم يجهلون بعضهم البعض، وكم مرة سمعنا عن حالات طلاق بعد 20 عامًا وأكثر، وتدهشنا الإجابات الجاهزة على الأسئلة المعلبة على طريقة "معقول ما عرفتوش بعض كل الوقت ده" ويكون الرد "كأنه إنسان تاني عمري ما عاشرته"!
والحقيقة أننا لم نعرف الآخر فعلا، وكأننا مكثنا وقتًا طويلًا من الزمن على شاطئ البحر نغوص بخيالنا في جماله ونتابع تلاطم أمواجه، ثم تتبع حركة الشمس والغيوم من فوقه إلى أن تتوارى خلفه، وقد تشعل هذه اللقطات الساحرة ألسنة الإبداع وتلهم البعض لكتابة رائعة أو رسم لوحات تشكيلية فاتنة، وغيرها من فنون الإبداع، ولكن المفاجأة المرعبة أننا لم نشاهد البحر فقد توقفنا عند سطحه.. شكله الخارجي.. مظهره، ولم نلمس أعماقه لم نشاهد تكوينه الداخلي بكل ما يحويه من كنوز، والأشد وطأة أننا عشنا أكذوبة "عشق البحر"؛ بل ونتغزل في جماله ونحن لم نعرفه بعد انقضاء أوقات طويلة على السطح، وهو ما يحدث بين البشر أيضًا ينخدع الكثير بالصورة الظاهرية، ولا يأبه بالغوص داخل مكنونات الآخر أو حتى محاولة التعرف على طبيعته الدفينة، ثم نلقي باللوم على الحياة والظروف والأيام، ونفرط في استخدام بعض المفردات الوصفية مثل الأقنعة والتزييف والازدواجية .
وإحقاقًا للحق "لقد بذل الجنس البشري مجهودًا جبارًا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزًا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمنة، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا ولا نفهم الإنسان ككل إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد مكون من موكب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة.... وواقع الأمر أن جهلنا مطبق فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب؛ لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية مازالت غير معروفة" كتاب الإنسان ذلك المجهول.. دكتور أليكسيس كاريل.
وإن كانت هذه هي النتائج التي توصل إليها العلماء فما بالنا بمن لا يطرقون الأبواب، ومن لا يمتلك شغف الإبحار.
من هنا وجدت أن الصيغة المنطقية لتفسير الأمر أننا نعيش حياتين بالتوازي، حياة داخلية وأخرى ظاهرية، وهو ما يجعلنا نتقبل الكثير من السلوكيات غير المرغوبة، فقد نذهب لزيارة غير محببة لنا داخليًا، بينما على المستوى الخارجي لابد من إتمامها، وربما نمضي عمرنا في مهنة لا تتسق مع وضعنا النفسي، ونظل مضطرين للمضي قدمًا على نفس الدرب حتى نعتاده ونتأقلم عليه، وكم أسرة استمرت تحت سقف بيت واحد بلا توافق أو تناغم، ولكن الظروف المجتمعية والأسباب الجمعية تفرض قيودها..
هنا تتعارض الحياتين "جوه وبره" لدى الإنسان وهو ما يفقده توازنه النفسي، ويرتفع منسوب الكبت الداخلي الذي يتحول إلى انفجار في أي لحظة ، فالضغوط المتلاحقة نتيجة السير عكس اتجاه النفس وميولها تصيبنا بنوع من التخمة الحسية التي تأكل أعصابنا ومشاعرنا فتصيبنا بهشاشة تفاعلية تفقدنا القدرة على استيعاب أنفسنا أو تحمل الآخر.
"إن النفس البشرية مليئة بالاضطراب والتخيل.. وأن الكثيرين الذين يعيشون في أوهام إذا لم تنقذهم العناية الإلهية من أوهامهم ينحدر بهم الطريق إلى الجريمة والجنون".. سيجموند فرويد
كن حريصا على نفسك ولا تسكب بها ضغوطًا لا تطيقها، وكن حريصًا على معرفة الآخر كما ينبغي دون استسهال، وكن أكثر حرصًا في اختيار من يتجاوز سطحك، وساعده على الوصول للعمق كلما استطعت.