10-9-2023 | 15:40

بذلت الشعوب الغالى والنفيس، حتى تتحرر من ربقة الاستعمار الذى جثم على صدورهم وعقولهم، وحول بلادهم فى العصور القديمة والحديثة إلى بقرة حلوب يستنزف خيراتها ويسطو عليها ببجاحة على مدار الساعة، وحرمهم من حقهم المشروع والطبيعى بتوجيه بوصلة مستقبل أوطانهم بالاتجاه الذى يرونه محققًا تطلعاتهم ويخدم مصالحها العليا، وليس مصالح المستعمر ومشاريعه وتحالفاته.

تضحيات ودماء هذه الشعوب منحتها استقلالها وحريتها، لكن كان بانتظارها مهمة أخرى شاقة وعسيرة، لتكتمل سعادتها وفرحتها وتحافظ على أمانها وسلامتها الاجتماعية والحضارية، هي التخلص من كم هائل من النفايات الاستعمارية التى لا تزال عالقة بثوبها، رغم مرور عقود على رحيل المستعمر.

تلك النفايات الكريهة مصدرها محاولات القوى الاستعمارية المستمرة طمس الهويات الوطنية للبلدان المحتلة، عبر وسائل وطرق خبيثة ماكرة، منها تغيير أسمائها القديمة، والعبث بتركيبتها الاجتماعية والعرقية، وتأليب الأعراق والطوائف على بعضها البعض، وإثارة النعرات فيما بينها، ونشر أدواتها الثقافية من لغات ومفاهيم وأفكار وعادات ومظاهر لا تتوافق غالبيتها مع السائد من أعراف وتقاليد متوارثة بين الأجيال، وهو ما تسبب في حدوث تشوهات واختلالات خطيرة ببعض المجتمعات لا تزال آثارها وتداعياتها باقية حتى اليوم.

في هذا الإطار، بمقدورنا فهم وتحليل خطوة تفكر فيها الهند، حيث أفصحت علانية عن رغبتها في استبدال مسمى "بهارات" باسمها الحالى، وهو الاسم القديم لها الذى غيره الاحتلال البريطاني الذى دام 200 عام إلى الهند، وتعتبر أن استعادته واجبة، بعد ٧٦ عامًا من استقلالها، حتى تزيل جزءًا من نفايات الحقبة الاستعمارية الكئيبة والبغيضة، والتى أورثت الهنود الفقر والمجاعات التى تفشت خلالها.

واعتمادًا على نتائج دراسة للخبيرة الاقتصادية "أوتسا باتنايك"، صدرت عام 2019، فإن الإمبراطورية البريطانية استنزفت ما يقارب 45 تريليون دولار في الفترة من 1765 إلى 1938 بفرضها ضرائب باهظة على المواطنين الهنود، وشراء سلعهم بالمجان تقريبًا، وتصدير المنتجات الهندية عن طريقها وبأثمان منخفضة، ثم تعيد بيعها بأسعار مرتفعة في الأسواق العالمية وتضع عائدها فى جيبها الواسع.

الهند ليست سوى نموذج من نماذج كثيرة تسعى وبشق الأنفس لإلقاء النفايات الاستعمارية فى سلة القمامة للأبد، ومن بين هذه النماذج العراق الذى تشرذم وتفكك على يد الاحتلال الأمريكى، الذى حمل عصاه وهرب من بلاد الرافدين، تاركًا إياه يقاسى ويلات الصراعات بين الطوائف التى أقامت حواجز خرسانية بين تكتلاتها السكانية، وتشكلت ميليشيات مسلحة للدفاع عن كل طائفة، واستشرى الفساد حتى النخاع في جنباته وأركانه، ونخب سياسية تقدم الولاءات الطائفية والعرقية على ما سواها، وتمكين تنظيم "داعش" الإرهابى من العثور على موطئ قدم له بهذا البلد العريق، وتحول العراق لساحة صراع شاسعة بين القوى الكبرى المتناحرة على النفوذ.

لم تهتم أمريكا بمصلحة العراق، فقد احتلته ولم يكن في جعبتها خطة لحكمه، ولا إدراك وواعى بطبيعة المجتمع ومشكلاته وتعقيداته، وحسبت أن خلع الرئيس الراحل "صدام حسين"، سيكون كفيلا بتحسين أحواله للأفضل، فإذا بها وعن قصد تعيد عجلة الزمن للوراء في بلاد الرافدين الغارقة في الأزمات ومعارك المصالح الإقليمية والدولية والشخصية، وأولى جرائمها وأكثرها انحطاطًا كان حل الجيش الوطنى العراقى، ومعه بقية مؤسسات الدولة العراقية.

وقفز غزاة العم سام من المركب بعدما أغرقوه في أوحال الطائفية والخصومات القبلية وشح الموارد، رغم غناه بالنفط، بينما يحاول أبناؤه المخلصون لملمة شتات البلاد، وإعادتها للطريق القويم بعيدًا عن الأطراف المتناحرة والمتنافسة على أراضيه المستباحة من قوى كبرى وصغرى، والمحافظة على  المتبقى منها.

أيضا لدينا أفغانستان، وهو بدوره نموذج آخر حى على المعاناة الشديدة من النفايات الاستعمارية، حيث غزاها الأمريكيون للقضاء على أوكار ومخابئ الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم "القاعدة" والمتعاونين معه، فإذا بهم وبسياساتهم الغارقة في الجهل وسوء التقدير يكونون سببًا مباشرًا في تغذية الإرهاب فيه وتناميه وظهور كيانات جديدة أشد خطرًا من القاعدة، وتفسخ البلد بين الظلاميين ودعاة العنف وقطع الرقاب ووأد البنات، وبين المناصرين لأمريكا ومن سار فى فلكها من طبقات المجتمع الأفغانى، وليتها اكتفت بهذا الجرم الواجب محاسبتها ومعاقبتها عليه، لكنها سلمت البلد لحركة "طالبان" الإرهابية التي قاتلتها سنوات متعاقبة، وأبرمت معها صفقة، ثم فرت هاربة دون أن تجمع أسلحتها ومعداتها التي وقعت في يد "طالبان".  

وجد الأفغان أنفسهم بين نارين، هما طالبان التي تريد إعادة أفغانستان للقرون الوسطى، وما خلفه الأمريكيون من نفايات سوف تخنقهم سمومها المتطايرة لأعوام قادمة، وغالبا ستكون ممتدة، في حين يكتفى المجتمع الدولى بإبداء حسرته وألمه على ما آلت إليه أحوال أفغانستان من بؤس وتدهور.

وما يبعث على الغضب والاندهاش أن أصحاب النفايات الاستعمارية لا يتوارون خجلاً مما فعلوه، لكنهم يتصرفون بأساليب وبعقلية تشعرك بأنه يجوز لهم فرض وصايتهم على مستعمراتهم السابقة كحق مكتسب لا نقاش  فيه، وفرنسا تقدم دليلاً على ذلك الآن بممارساتها في القارة الإفريقية وتطوراتها الجارية، دون أن تكترث بالرفض الشعبى المتعاظم لوجودها العسكرى في دول، مثل الجابون والنيجر، فهى كغيرها من المستعمرين تصر على إفراز مزيد من النفايات الاستعمارية السامة.

كلمات البحث
الأكثر قراءة