كان البكاء رفيقًا ملازمًا له في الصغر، يبكي لأي سبب يجرح مشاعرها أو قد يجرح مشاعره أو من المحتمل أن يجرحها، كان مستعدًا للبكاء في كل الحالات ومع جميع الاحتمالات؛ لذلك لم يتعود أبواه أن يعاقباه بالضرب، مجرد نظرة من أيهما كانت كفيلة بأن تقلب حياته رأسًا على عقب، تجعله يقضي ليلته باكيًا منتحبًا.
كلمة صغيرة قد لا يقصدها قائلها تقيم دنيته ولا تقعدها، نعم كان شديد الحساسية، ولم يجد من يفسر له متى يستوجب الموقف البكاء ومتى لا يستحق، وبالطبع لا مجال للحديث عن أن البكاء رحمة وراحة، فقد كان صغيرًا على استيعاب فلسفة البكاء وحكمته، شخص واحد فقط، عمه رحمه الله، كان شديدًا في طبعه إلى حد كبير، يراه فترتعد فرائصه، كانت تكفيه رؤيته لكي يبكي.
ذات مرة كان يبكي، فترجل هذا العم عن فرسه، وانطلق من بين الجموع ونظر إليه بتمعن، ثم أعلن له حكمته البليغة بكل فخر واعتزاز "البكاء للحريم فقط وليس للرجال"، وظل يكررها في وجهه، حتى تجمدت الدموع في عينيه بالمعنى الدقيق للكلمة.
ومرت الأيام وكبر وجاءته لحظات كان يتمنى فيها البكاء، لكنه لم يستطع، لقد أقنعوه أن البكاء للحريم، واقترن ذلك برؤيته الدائمة للبنات والنساء وهن يبكين كثيرًا، وربما لأسباب يراها تافهة، فعزز ذلك لديه أن البكاء بالفعل للحريم فقط، لكن نفسه كانت تحدثه دومًا، كم هن محظوظات، يمكنهن البكاء في أي وقت وأي مكان ولأي سبب دون أي لوم أو عتاب، ألم يخلق البكاء لهن كما أخبروه، هو إذن حق لا يجادلهن فيه أحد.
لكن مع الوقت أصبح الأمر مملًا، ومع قراءاته واطلاعه وجد من يدعون أن البكاء رحمة وراحة للإنسان، فأصابته الحيرة وبدأ يتساءل كيف يكون هذا الحق وتلك الراحة والرحمة حكرًا على النساء فقط دون الرجال؟! ألا تطالب المرأة بحقوقها والمساواة مع الرجل؟! لماذا لا يفعل الرجل بالمثل ويطالب بالمساواة وبحقه في البكاء الذي تستحوذ عليه المرأة بالكامل دون شفقة أو رحمة؟!
يوم ماتت أمه شعر بالدموع وهي تحاول جاهدة أن تخلص من عينيه المتجمدتين، لكن جاء من وراءه من يقول "كيف ذلك، لا يصح أن تبكي، أنت الكبير، اترك ذلك لأخوتك الصغار"، صدمة أخرى تتعارض مع المبدأ الذي تربى عليه "البكاء للحريم فقط"! ما هذا؟ هل البكاء ممنوع وغير مصرح به لأننى الأخ الأكبر؟ أم لأنني رجل كما أخبروني في الصغر؟ معنى ذلك أنه متاح لأخى الأصغر أن يبكي رغم أنه رجل! إذا كان الأمر كذلك فلم لا يحق لي أنا أيضًا أن أبكي كيفما شئت.
وظل على هذا الحال إلى أن جاء يوم ورأى عمه صاحب الحكمة القديرة "البكاء للحريم فقط"، ذلك العنتيل الذي لا يشق له غبار، يجلس في منزلهم ويبكي كالأطفال، بكاءً مريرًا عالي الصوت شديد الانتحاب، يبكي حاله وما أحدثته به الأيام.
نظر إليه متعجبًا ومتسائلًا ما هذا؟ كيف يبكي هذا الرجل مهما كانت الظروف، كيف تنازل عن مبادئه وتخلى عن حكمته القديرة التي أطلقها أمامي منذ سنوات طويلة؟ وانتظر حتى هدأ وسأله بما في نفسه، فنظر إليه وقال "حقك عليا" أنا آسف، ابكِ وقتما شئت ولا تجعل أحدًا يوقفك عن البكاء فهو رحمة يا ولدى.
هل تخبرني الآن أن البكاء رحمة؟ هل تعلم كم من السنوات حرمتني من تلك الرحمة؟ هل تعلم كم مرة حبست فيها دموعي حتى لا يضحكوا ويقولوا كيف يبكي الرجل؟ هل تدري كم الدموع المتراكمة بداخلي؟ وكأن العم قد قرأ ما يدور بداخله، فحاول أن يتماسك أمامه ويحبس دموعه فقال له لا، ابكِ، استمر في بكائك، ربما تكون قد حرمتني من تلك الرحمة في الماضى دون قصد، ربما هي عادة ورثتها عن سلفك.. ربما.. أما الآن فلا أستطيع أن أمنعها عنك وقد ذقت مرارة الحرمان منها سنوات طويلة.
إذا وجدتم أبناءكم يبكون فاتركوهم حتى ينتهوا تمامًا، دعوهم يفرغون كل ما بجعبتهم من الدموع، لا تمنعوهم البكاء، لا تقولوا لهم إنه "للحريم فقط"؛ لأنه بلا شك ليس كذلك، وعندما يفرغوا من بكائهم اسألوهم عن سبب البكاء، وانصحوهم وفسروا لهم، ناقشوهم واستمعوا إليهم واحترموا وجهة نظرهم، ما يبكيهم قد لا يبكيك فلا تعتبر ذلك ضعفًا منهم، لكل واحد طاقة احتمال في الحياة، فلا تحملوهم ما لا طاقة لهم به.
البكاء رحمة من الله سبحانه وتعالى أطلقها لعباده ليفرغوا بها همومهم، فلا تسدوا أبواب الرحمة أمامهم.