الفرعونية.. حضارة المستقبل

30-8-2023 | 20:25

"يتداعى الخيال ونسقط بلا حراك تحت أقدام الحضارة المصرية"... قالها شامبليون، بل إنه قبل أن يوجز هذه الألفاظ كان المعنى ثابتاً مترسخاً فى أفق الزمان.

والحقيقة أنه دائماً ما يكون الحديث عن الحضارات متقوقعاً فى دوائر الماضى أى دائماً ما يتم التعامل مع الحضارات باعتبارها تاريخًا، فهذه هى القاعدة أو هى القانون والمرجعية التى يتم التعويل عليها أياً كان طابعها أو اتنماؤها أو جغرافيتها، لكن ذلك لا يمنع الانفلات عن هذه القاعدة أو هذا القانون إذا اجتمع لأى حضارة ذلك البعد الإعجازي التى يطلقها فى أفاق الأبدية وهى آتية من أعماق التاريخ السحيق، وبالطبع ليس هناك حضارة قد اتسمت بشيء من هذا غير تلك الحضارة الفرعونية المذهلة التى قلبت معايير التقييم حين اجتمع علماء المصريات المحدثين من شتى بقاع العالم فى مؤتمرهم الثالث عشر بهولندا والذى احتشد فيه أكثر من ثمانمائة عالم وعالمة على أن تكون القضية المركزية لهذا المؤتمر هى مستقبل مصر القديمة أو مستقبل الحضارة الفرعونية وليس هذا بالشيء المألوف فى دراسة الحضارات إنما هو المنطقى تماماً حين التعرض بالبحث فى جذور الحضارة المصرية... لماذا؟ لأنها الحضارة الوحيدة بين كافة الحضارات التى لا تزال تمثل ِشفراتها وطلسماتها ورمزياتها وأفكارها ومعمارها وأسرارها ومثلها وقيامها حالة تفردية استثنائية أتت على غير مثال، لأنها جسدت معاني الخلود على إطلاقها، وأحدثت كل ما يتجدد من معانى الحيرة والدهشة والفتنة لدى العلماء والفلاسفة والأدباء والأثريين، وأبرزهم الألمانى "لودفيج بورشاردت" مكتشف تمثال نفرتيتى، وكذلك صدر ورأس أخناتون والذى صاحب الأثرى الفرنسى "جاستون ماسبيرو" فى إدارة معهد الآثار المصرية وأصدرا معاً أرشيف المتحف المصرى وقاد بنفسه عملية الاستكشافات فى هليوبوليس ومقابر الملوك وغيرها.

بل إن هذه الدهشة والحيرة قد ورثتها الأجيال المتعاقبة من العامة والخاصة مصريون وغير مصريين، من ثم ليس غريباً أن يكون لهذه الحضارة علم مستقل هو علم المصريات الذى يقدم فيه القاصى والدانى على اختلاف جنسياتهم وثقافاتهم وتوجهاتهم، كل ما يتجلى من أطروحات وإسهامات ومحاولات تسعى لاستكشاف الجديد.

وعلى كل ذلك أو بعضه يصبح استلهام روح هذه الحضارة هو المحقق الأوحد للدافعية نحو القوة والتحدى والصمود واستعادة ركائز الشخصية المصرية واستحضار مكامن الإبداع فيها ليتسق التاريخ مع ذاته ويصبح وحدة واحدة لا يتناقض فيها الحاضر مع الماضى ولا يتصارع فيها الحاضر مع المستقبل. 

إن رصد كل ما قيل عن هذه الحضارة يمثل زخماً معرفياً هائلاً يجب توظيفه بعد استيعاب تفصيلاته لننهض بحركة الواقع المعاصر ونخرج بها عن أطر الرجعية الحضارية التى تتناقض بالضرورة مع تاريخ جبار له قيمة عليا تتهالك الأمم على بلوغها.

لكن السؤال هو كيف وبعد أكثر من خمسين قرناً لم تستطع حركة العلم على اختلاف أطوارها أن تبلغ ما انطوت عليه هذه الحضارة من حقائق وأسرار وحكم؟ بل وكيف اجتمع فى تراثها كل العلوم كالهندسة والفلك والطبيعة والكيمياء والفنون والآداب وتلك الروح الدينية الأصيلة؟ بل إنها أيضاً كيف شيدت بأدوات بدائية بينما العلم الحديث لم يقو بكل تقنياته المعاصرة على إقامة تماثلية معها، وإن كان قد أنتج حضارة نوعية رائدة؟ وإلى أى مدى زمنى تظل هذه الحضارة مستأثرة بأسرارها ترفض البوح ليظل التحدى أزليًا أبديًا؟ وأى حضارة فى التاريخ البشرى كانت لها كل هذه المعطيات الزاخرة بالعجائب؟

إن التساؤلات حول الحضارة الفرعونية قد لا تنتهى مطلقاً، وهذه أخطر الدلالات فى كونها حضارة إعجازية كانت مقدمة رائدة لحضارات العالم من حيث تأثيراتها الفاعلة على كافة المقومات الحضارية والإنسانية والفلسفية والأثرية.

 وهذه هى مصر المعطاءة الفياضة الزاخرة بأعاجيب الدنيا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة