النظام الدولى الحالى هو رجل العالم المريض، يحتاج إلى تشخيص دقيق، ومن ثم دواء، وأى مكابرة فى هذا تعنى اشتداد المرض، ونهاية المريض مصادفة أو عمدا.
مئات المواثيق الدولى المحترمة صاغها هذا النظام، لكنها لم تجد طريقها إلى الواقع، وبقيت حبرا على ورق.
على طريقة العصور السحيقة، فإن القوة وحدها هى التى تسود بين أركان هذا النظام، وكأن حاملى القوة لا يقرأون سجلات التاريخ، فالقوة فى حد ذاتها لا تقيم حضارة، وكل القوى الغاشمة ذهبت أدراج الرياح.
من حسن حظ عالم اليوم، أن وسائل التكنولوجيا الحديثة، والذكاء الاصطناعي، عملا، دون قصد، على تثقيف الجماعات البشرية، فباتت تدرك أن هذه القوة مجرد لغو فى الفراغ، ومع الإيمان بقدرتها على التحطيم، وإشاعة الفوضى، فهى عاجزة عن حماية نفسها ساعة المرض.
على سبيل المثال تبدو الليبرالية كفكرة، براقة، لامعة، موحية، حرة، وهذا أمر صحيح على مستوى الكلام، فهل هى هكذا فى الواقع؟
حسنا، فلننظر إلى الماضى القريب، وسنجد أن معتنقيها الأشداء، ذهبوا إلى الحرب أكثر من 45 مرة فى النصف الأخير من القرن الماضي، ولا تزال حرابهم مسنونة فى هذا القرن فى شتى بقاع العالم.
فالليبرالية الجميلة هذه تعنى سيطرتهم المطلقة، فكرا وثقافة وإبداعا، وإلا فإن الفوضى والغزو وتدمير الاقتصاد والمجتمعات، عقاب من يرفض.
لا أنسى عشية غزو العراق 2003، وهو غزو رفضته الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وشعوب الدول الغازية نفسها، أن “الليبراليين الدوليين” ذهبوا بعيدا، وأوغلوا فى القسوة، ودعموا تحطيم بلد مستقل، عضو فى الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ولم يعاقبوا، ولم يعتذروا، ولم يعوضوا شعبه عن ملايين القتلى والجرحى، ناهيك عن التدمير الاقتصادى المرعب.
عشية هذا الرعب المسلح، أصدرت مجموعة تسمى نفسها ”الليبراليين العرب” بيانا يضاف إلى بيان الليبراليين الدوليين، مدحوا فيه خطوة الغزو، لاعنين الديكتاتورية، وكانوا قبل ذلك يتمسحون فى جمال الليبرالية الطيبة، التى لا تدعو إلى الحروب، ثم تدعو وتسمح وترحب بالاختلاف!
هؤلاء الليبراليون الجدد ماذا فعلوا عندما دارت عجلة الحرب؟
أصدروا بيانا فصيحا عن أهمية ”نشر الديمقراطية” تحت وابل الرصاص، وعادوا وكرروا فعلتهم أثناء ما يسمى الربيع العربي، فدعموا انهيار المجتمعات والدول، ولديهم أدوات كاملة فى التبرير، والتعالى على الشعوب المسكينة.
وبين وقت وآخر يظهر على المسرح شخص أو جماعة، تدعى أنها تحمل لواء هذه الفكرة البراقة، وأنها تعمل لصالح البلاد والعباد، تتشدق بنفس الكلمات الطيبة البراقة.
تظهر فى أوقات معلومة، مرتبة، محسوبة، حين تأتيهم إشارة من السيد الليبرالى الكبير، إشارة مكتوبة بحبر سري، يبدأون من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، إلى التغلغل فى الجماعات والتيارات السياسية، يبدأون فى البكاء على لبن الديمقراطية المسكوب، تجدهم طيبين ودعاء فى البداية، كأنهم رسل هذا العصر، مع مرور الوقت وعدم الانتباه، تجدهم مصابين بداء التوحش الليبرالي، كأنهم شخصيات قادمة توا من روايات وليم شكسبير.
هذا التوحش الواضح حدث ذات مرة، ويحدث الآن في تشجيعهم لاندلاع مزيد من الحروب، وكثير من نشر الفيروسات، وقليل من تصنيع الأزمات الاقتصادية الدولية، والتدخل الفج فى المجتمعات والدول.
يا لها من لعبة صفرية، نفر قليل، مربوط بحبال سرية، ممتدة إلى مكان بعيد، يتلاعبون بالعقول والقلوب!