26-8-2023 | 12:47

يحق للهند أن تفتخر وتزهو عن جدارة بصناعتها التاريخ، حينما هبطت مركبتها الفضائية "تشاندرايان ٣"، ومعناها القمر، على القطب الجنوبى للقمر الذى يعتقد أنه مصدر محتمل للمياه والأكسجين، ويتميز بتضاريس وعرة للغاية، وذلك بعد أيام من فشل مهمة روسية مماثلة، وهكذا تنضم نيودلهى وعن استحقاق إلى نادى النخبة الفضائى جنبًا إلى جنب مع الثلاثة الكبار: الولايات المتحدة وروسيا والصين.

الإنجاز الهندى التاريخى له ملمحان مهمان يحملان فى طياتهما كثيرًا من الدروس المفيدة الواجب إمعان النظر فيها، الأول أن الهند التى يربو تعدادها على المليار نسمة، وتعانى شرائح عديدة من مواطنيها أوضاعًا اقتصادية بالغة الصعوبة والفقر، تواصل بنجاح تسجيل وتحطيم الأرقام القياسية، حيث حلت بالمركز الثانى بعد الصين فى الوصول إلى القطب الجنوبى للقمر، وهو الجزء المظلم الذى لا يمكن رؤيته من الأرض، وأصبحت العضو الرابع بين عمالقة الفضاء، بعد أمريكا والصين وروسيا، بل وتنافسهم على الريادة فى هذا المجال العلمي الدقيق.

قبلها كانت الهند أول دولة آسيوية تضع قمرًا صناعيًا فى مدار المريخ الذى تتسابق الدول الكبرى على بلوغه واستكشاف كل ما عليه، وتلك ليست بالمسألة السهلة الهينة من الناحية التقنية والتكنولوجية والتكلفة المالية والقدرة على المتابعة والتحلى بالصبر للحصول على نتائج يٌعتد بها فى الأوساط العلمية العالمية والإقليمية.

وتعكس هذه الجهود طموحًا هنديًا جامحًا لاستكشاف سطح القمر، والتركيب الكيميائى لتربته، والبحث عن الماء عليه لاستغلاله كوقود لدفع المركبات الفضائية المتجهة إلى المريخ ووجهات أخرى، بواسطة الروبوت "برغيان"، ومعناه الحكمة، وحصيلة ما سيجمع من معلومات وأسرار ستتم كتابتها بمداد لا يمحى في كتب التأريخ للبشرية ومنجزاتها، كإضافة جوهرية لإنجازات حقيقية تتعلم منها الأجيال الهندية الحالية والقادمة، التى ستعي أنه لا مكان لكلمة المستحيل، وأنه عليك أن تطمح لكل ما هو بعيد المنال فى نظر الكثيرين داخليًا وخارجيًا، وتحقيقه بجد واجتهاد ومثابرة.

وذلك يوصلنا إلى الملمح الثاني المتعلق بالاعتماد التام حرفيًا على الذات من قبل نيودلهى لبناء برنامجها الفضائي المتفوق، حيث استعانت بكوادرها البشرية بنسبة 100%، وصناعاتها المحلية، وتمكنت من تقليل التكلفة إلى الحد الأدنى مقارنة بتكاليف إطلاق مركبات الفضاء الأمريكية والروسية والصينية، فمهمة "تشاندرايان" كلفتها 74.6 مليون دولار فقط.

وعندما تغوص في التفاصيل ستعرف أن العلماء الهنود اكتسبوا خبراتهم ومهاراتهم من العمل ضمن طواقم البرامج الفضائية للبلدان المتقدمة، ثم نقلوها لبلدهم الذى لم يضنوا عليه بمعارفهم وإسهاماتهم الفائقة والمتميزة، وبالتالي لم تكن الهند في احتياج للاستعانة بأى خبرات أجنبية للمضي قدمًا في برنامجها الفضائى الواعد، لأن لديها كوادرها البشرية التى تكفيها وتفيض وتتسلح بجودة تعليم منحتها المعرفة والقدرة على الإنجاز، فالتعليم كان له دوره الحيوي ومكنها من حشد علماء وفنيين ومتخصصين أكفاء يستطيعون تنفيذ ما يٌحدد لهم من أهداف، بدليل أن نيودلهى تمتلك تكنولوجيا صواريخ متطورة تشكل عنصرًا رئيسًا لبرنامجها الفضائى، ودونها لن تحقق أى شيء.

هنا ستجد سلسلة متصلة ببعضها البعض بروابط متينة توحدت فيها جهود الدولة، والإرادة السياسية، والمؤسسات العلمية، والصناعات المحلية، والموارد البشرية، ومعها الحاضنة الشعبية، والنتيجة كانت ما نتابعه من قفزات بمجالات الفضاء، وتكنولوجيا المعلومات، والاكتفاء الذاتي من القمح، وامتلاك قدرات نووية توظفها كسلاح ردع وزجر في خصومتها الأزلية مع الجارة باكستان، وكل مَن يحاول المساس بأمنها القومى، ويجعلها قادرة على مناطحة الحيتان على الساحة الدولية دون خوف ولا وجل.

نخلص من ذلك إلى أن التجربة التنموية والتكنولوجية الهندية جديرة بدراستها بتأن ٍوتروٍ، واستخلاص الدروس المناسبة منها لظروف وأوضاع الساعين على درب التنمية والتطور، وإيجاد حلول ذاتية لأزمات ومصاعب تعوقهم وتكبل حركتهم عند محاولتهم التقدم للأمام بعيدًا عن تدخلات خارجية فجة لا يهمها ولا تكترث مطلقًا بالمصالح الوطنية العليا للدول.

كلمات البحث
الأكثر قراءة