يمر النظام الدولى بحالة فراغ نادرة، لا توجد فيه قوة وازنة إلا بالسمعة الموروثة، ولا توجد فيه كتلة ثقافية حرجة.
هذا الفراغ دعا جوتيرتش، الأمين العام للمتحدة إلى تقديم مبادرة تعطى للمنظمة الدولية موقع الحاكم والحًكم، وتجعل من المنظمات الدولية بديلا عن «الدول» فى تسيير شئون العالم، وتناولت هذا فى المقال السابق.
إنه فراغ نادر لم يحدث من قبل، فغالبا ما كانت توجد قوة أو أكثر تهيمن، سياسيا وثقافيا، على معظم قارات العالم، ولنا فى التاريخ أمثلة حية.
أمريكا مشغولة بمطاردة دونالد ترامب، وروسيا مشغولة بأوكرانيا «غربية الهوى»، والصين تحتاط من أجل تايوان، ومقعد النمر الاقتصادى العملاق، وفرنسا تواجه وضعا صعبا فى إفريقيا، وإنجلترا تخرج من الاتحاد الأوروبى، وألمانيا تخشى من المستقبل الغامض للحالة الأوكرانية.
إفريقيا، تبحث عن دور على المسرح، لم تتمكن سابقا من أدائه، أما آسيا وأمريكا اللاتينية فتحاولان مزاحمة الوجود الدولى بانضمام قواها الحية كالهند أو البرازيل إلى هذا التجمع أو ذاك.
الوصول إلى محطة الفراغ هذه نتجت عن خوض أمريكا وحدها 44 حربا فى الـ 78 عاما الماضية، فشلت فى تحقيق انتصار يذكر فى أى واحدة، خاصة فى الحروب الكبرى: حرب الكوريتين، وفيتنام، والعراق عدة مرات، كذلك فعلت فرنسا وإنجلترا، فى أماكن أخرى، ثم روسيا فى أفغانستان، تلك الحرب التى انتهت بتمزيق الاتحاد السوفيتى إلى دويلات مستقلة، بعضها يعادى “روسيا الأم” الآن.
الشـاهـد أن هـذا النظـام تمزق عشية نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنشاء الأمم المتحدة عام 1945، وتمزق بعد انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 وصعود أمريكا كقطب أوحد.
نهاية التاريخ تحولت إلى أكذوبة، والعولمة حملت بذور الشر بدلا من الرفاهية وتبادل الثقافات، والتجارة الدولية تقطعت شرايينها بنشر الفيروسات إهمالا أو قصدا بدلا من التعاون الخلاق.
حمل هذا النظام بذور فنائه منذ البداية، تصادم شركاء الانتصار معا أثناء رفقة السلاح فى مسارح القتال، فأمريكا والاتحاد السوفيتى، الشريكان فى الخنادق ضد النازية، كانا يتصارعان سرا.
مع إعلان نهاية الحرب افترق الشريكان، قسما العالم فيما بينهما، خاضا حرب تكسير عظام سميت بالحرب الباردة، انتهت بنصر تليفزيونى قاده فرنسيس فوكوياما ورفاقه.
الدفاتر القديمة لا تصلح للتاجر الجديد، فقد أغرى هذا الفراغ الفكرى والإبداعى والفقر الفلسفى قوة غاشمة لتهندس أفكارا قاتلة، كفكرة الفوضى الخلاقة القادمة من علوم طبيعية كالكيمياء والفيزياء، لتنفذها اجتماعيا، تعبث بالعقول والقلوب، فكانت النتيجة تدميرا منظما فى بنية الدول والمجتمعات، وتخريب الأوطان، ونشر الأوبئة، وتمهيد الطريق أمام الثعالب الصغيرة لتعبث بالكروم.
من سوء حظ الإقليم العربى أن نتائج هذا النظام، نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن فى صالحه فى الغالب.
والشاهد أنه بدأ بالاستقلال والتحرر من الاستعمار الخشن، وقادت مصر هذا التحرر فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
هذه الحالة أفضت فى النهاية إلى استقطاب حاد بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وصلت إلى ذروتها بالغزو والحروب والفوضى التى ضربت جميع دول الإقليم بصورة أو أخرى، وكانت الفوضى الخلاقة ذروة هذه الحالة.
الآن فى ظل الفراغ الدولى النادر يستطيع الإقليم العربى أن ينهض بفكرة واحدة، وهى أن يشكل رقما صعبا فى المعادلة الدولية، وهو قادر، إن تجمعت الإرادة، وتخلت كل دولة عن مفهوم النجاة بالنفس، ودون شك فإن مصر هى قلب هذا الإقليم وحجر الديوريت، شديد الصلابة، والكتلة الحرجة التى تستطيع أن ترجح كفة الميزان العربى.