22-8-2023 | 15:19

كانت زيارة الهند أمنية تراودني باستمرار ولا أجد لها سبيلًا.. وظلت الأمنية حلمًا حتى رأيت - أثناء عملي بجامعة برجن - إعلانًا عن تنظيم مؤتمر علمي في الهند، فلم أتردد في التقدم للجامعة بطلب للموافقة على تمويل مشاركتي، لكنه قوبل بالرفض لارتفاع التكاليف، إلا أن الله أراد للحلم أن يتحقق ويعود المدير بعد فترة قصيرة ليخبرني بموافقته على السفر.

من يذهب إلى الهند يشعر منذ اللحظة الأولى برغبه شديده في أن تلتهم عيناه كل ما يرى، فالهند تختلف عن أي دولة قد تزورها، حضارة مختلفة وثقافة متميزة تلقي بظلالها على كل شيء حولك، المباني، الملابس، الألوان، الزحام.. كل شيء مختلف، وعليك أن تشبع عينيك برؤيته؛ لأن تكرار تلك الزيارة قد لا يكون سهلًا؛ لذلك كان أول شيء أفعله هو شراء كاميرا ديجيتال لتسجيل كل خطوة أخطوها.

وصلت إلى استراحة أساتذة الجامعة في نيودلهي لقضاء ليلتي الأولى بها، وجاء وقت العشاء، فذهبت لأجد بعض النزلاء من أساتذة الجامعة يجلسون بدون سراويل، نعم بدون سراويل، مجرد ملاءة يلفون وسطهم بها، ومعهم سيدة هندية ترتدي الساري الهندي المميز، أخفيت دهشتي ولم أبدها لهم، وحاولت جاهدًا صرف نظري عن الرجال الذين يلفون وسطهم بتلك الملاءات حتى لا يتضايقوا.

تبادلنا التحية وبدأوا في إحضار الطعام؛ عشاء بسيط عبارة عن طبق كبير به عدس وآخر ممتلئ بالأرز، ففوجئت بالزملاء يضعون العدس على الأرز، ثم بدأوا في تناوله بأيديهم، وبينما أنا في حيرتي هل أندمج مع الموقف وأفعل مثلهم أم لا؟! فوجئت بالعامل - وقد لاحظ حيرتي – يقترب مني مبتسمًا ومعه ملعقة، ابتسمت وشكرته ثم تناولت ذلك الخليط العجيب من الأرز والعدس الأصفر لأول مرة في حياتي، والحق أقول إنه كان شهيًا جدًا.

وفجأة لاحظت وجود طبق به شيء يبدو كالمخلل، ورغم أنني من عشاق المخللات إلا أنني ما إن تذوقت هذا الصنف حتى أصيب لساني فورًا بالشلل وجحظت عيناي وتحجرت من كثرة الشطة، المضحك في الأمر أن يأتي في تلك اللحظة شيطان خفيف الدم للغاية ويهيئ لي أنني آكل مانجو، وبينما أنا استعيذ بالله من ذلك الشيطان الشقي جاء العامل يسألني هل أعجبك مخلل "المانجو"؟! ليؤكد لي أنني ألتهم ثمار المانجو الملغمة بالشطة الحريفة، هذا الطبق العجيب كان شهيًا لدرجة أنني كنت أبحث عنه بعد ذلك في كل وجبة، ولا أتركه قبل أن أقضي عليه تمامًا ضاربًا بمعدتي عرض الحائط.

كانت زيارتي بغرض إلقاء محاضرة في أحد المراكز العلمية في مدينة بيلاني التي تبعد عن نيودلهي حوالي خمس ساعات، لكنني كنت قد خططت لزيارة "تاج محل" قبل ذهابي إلى المؤتمر، فهي فرصة قد لا تتكرر، وقضيت خمس ساعات أخرى للذهاب إلى مدينة "أكرا" لأرى إحدى عجائب الدنيا التي بناها الملك "شاه جهان" لتكون قبرًا لزوجته الحبيبة "ممتاز محل"، وجلست على أريكة "الأميرة ديانا" التى بكت عليها عندما حكوا لها قصة حب الملك وزوجته، ومن يومها أطلقوا عليها اسم ديانا، وأصبحت من معالم المكان.

كان المرشد الذي يصطحبني قد أخبرني بضرورة استقلال عربة لنصل إلى تاج محل ووجدته يستوقف وسيلة مواصلات عبارة عن دراجة ملحق بها أريكة صغيرة، وهناك شخص يقوم بقيادة الدراجة، ونحن نجلس خلفه على الأريكة، كان شكل الرجل والعرق يتصبب منه وهو يجرجر قدميه بحثًا عن بدال الدراجة، ونحن نجلس كالبهوات فوقها مثيرًا للشفقة، لدرجة جعلتني أشعر أننا نقتله قتلًا، فطلبت منه التوقف فورًا ودفعت له أجره كاملًا، وقررت أن نكمل الطريق سيرًا، والمرشد يكرر ويلح أن ذلك عمل الرجل، وأنا أصر على السير على الأقدام.

انتهت الزيارة وتوجهت إلى مدينة بيلاني، وصلنا وقت الغداء، اتجهت فورًا إلى المطعم، ولم أكن أعلم طبيعة الطعام الهندي، رائحة التوابل تصل إليك حيثما كنت، تشعر بوجودها حتى في الحلوى والعصائر، البعض أخبرني أنهم يستخدمون ما قد يزيد على أربعين صنفًا من التوابل، وعلى رأسها الكركم.

كان اللبن الرائب أساسيًا في كل الوجبات وبكميات وفيرة، في بيلاني كانت القاعدة أنه لا لحوم.. لا دجاج.. لا أسماك، ضحك أحدهم وأنا أسأله عن سبب ذلك وقال: ألم تسمع عن جنون البقر؟ قلت نعم.. ألم تسمع عن إنفلونزا الطيور؟ قلت نعم.. ألم تسمع عن تلوث المياه؟ قلت نعم.. فقال متعجبًا: بعد كل ذلك كيف نأكل هذه الاشياء! وقضيت أسبوعًا كاملًا بدون هذا أو ذاك، والحق أقول إن الطعام كان صحيًا جدًا، وفقدت كثيرًا من وزني.

المميز في الهند هو الكثرة في كل شيء، في الشارع أعداد الناس رهيبة؛ سواء من يسيرون على الأقدام أو الجالسون أو الواقفون أمام المحلات، السيارات أعدادها لا تحصى، آلاف الدراجات والموتوسيكلات تراها في إشارة مرور واحدة، كل شيء حولك يشعرك بأنها نهاية العالم، لدرجة أنني لم أشعر بنفسي وأنا ألتصق بالحائط في إحدى المرات عندما رأيت أعداد السيارات الرهيبة القادمة تجاهي عندما فتحت إشارة المرور، شعرت أن طوفانًا قادمًا سوف يلتهمني.

رأيت الفتيات في سن الإعدادى يركبن "الفيزبا"، ورأيت عربات الكارو التي تجرها الجمال، ناهيك عن التوكتوك الذي لم يكن قد انتشر في مصر بعد.

رأيت أيضًا البقر الذي يقدسه الهندوس في الشوارع يجلس في الطرقات دون أي إزعاج من أحد، وأثار إعجابى التاكسي الذي ركبته وتعجبت عندما أكدوا لي ظني أنه ينتمي إلى فئه السيارات القديمة (القردة 1100)؛ لكنها كانت جديدة ونظيفة، وعلمت أن الهند تقوم بتصنيعها واستخدامها، كانت كل سيارات التاكسي تنتمي إليها وتسير بشكل رائع لافت للنظر.

بيلاني عبارة عن مدينة صغيرة عندما تجولت فيها وجدتها مجرد قرية بسيطة، لكنهم انشأوا بها مركز بيلاني للعلوم والتكنولوجيا "بيتس بيلاني BITS Pilani" ليجعلوا منها قبلة للدارسين والباحثين، مبانٍ بسيطة لكنها نظيفة ومرتبة وتعج بالطلبه والباحثين، وبجوار المركز وجدت أحد المعابد الذي أخبروني أنه معبد "سارسواتي" الذي يذهب إليه الطلبة قبل الامتحانات لأداء الصلوات ونيل البركات.

إذا ذهبت للتسوق في الهند ورأيت محلات الاقمشة اعلم أنك سوف تقف منبهرًا أمام الألوان الرائعة، وسوف تحتار في الاختيار، وعندما ترى البنجابي والساري الهندي بأشكالهما المتنوعة سوف تزداد حيرتك، بالطبع لا أنسى العطور المتميزة، فقد كانت إحدى الزميلات السودانيات في النرويج قد طلبت مني شراء بعض العطور؛ لإهدائها لأختها في زفافها، وقامت بمراسلة أحد المحلات في نيودلهي لتجهيز المطلوب.

تواصلت مع صاحب المحل الذي جاء واصطحبني إلى وسط المدينة؛ حيث وجدته قد جهز شنطة مليئة بالعطور والأخشاب، وسألته ما هذا قال هذا خشب الصندل الشهير الذي يعشقه الإخوة السودانيون، وسألنى هل سوف تشتري بعضًا من زيت الصندل؟ قلت له بمنتهى اليقين لا.. لم تستهوني رائحة زيت الصندل!! ابتسم الرجل وقال لي: سوف تندم على ذلك، وقام بإهدائي عينات صغيرة من الصندل والعود والورد، وعندما عدت إلى الاستراحة، وبقيت ساعات مع تلك الروائح واعتدت عليها وجدتها رائعة، فطلبته فورًا وطلبت منه إعداد "طلبية" لي.

نسيت أن أقول إن سعر كيلو زيت الصندل كان في ذلك الوقت.. عام 2008.. يصل إلى عشرة آلاف جنيه مصري! وعلمت أنه من أساسيات الزواج في السودان، ولابد أن يشتري منه الزوج كمية وفيرة للعروسة، كان الله في عونهم.

لم يغب عن بالي خلال الزيارة أمنية كانت تراودني في الصغر، وهي الزواج من فتاة هندية ممن نشاهدهم في الأفلام، ولأنني متزوج - والحمد لله - فقد اكتفيت خلال زيارتي للهند بمحاولة رؤية أي نموذج لمن كانت سوف تصبح زوجتي إذا تحققت أمنيتي.

أسبوع كامل وأنا اتفحص الوجوه لأجد فتاة واحدة ممن نراهم في الأفلام الهندية، ولا حياة لمن تنادي، فالوضع على الطبيعة يختلف عما نشاهده في الأفلام.

وانتهت الزيارة ووقفت أودع زملائي الهنود، صافحتهم وأنا أحرك رقبتي يمينًا ويسارًا مقلدًا لهم وهم يضحكون، وشكرتهم على حسن الضيافة وحسن تنظيم المؤتمر، وعلى صداقة ظلت مستمرة حتى الآن.

كلمات البحث