Close ad
21-8-2023 | 15:48

لم يأت اختيار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، منتجع "كامب ديفيد"، لتلتئم فيه القمة الثلاثية التي جمعت قادة الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، اعتباطيا، أو لإضفاء الطابع غير الرسمي بين دول حليفة، لكنه حمل رمزية وإشارات سيكون لها تأثيراتها المحورية والمهمة على العلاقات فيما بينهم، وخريطة التنافس الجيوسياسية المتأجج بين واشنطن وبكين في منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي، خلال الأشهر والأعوام المقبلة.

الرمزية كان لها وجهان يكملان بعضهما البعض، الأول أن اسم "كامب ديفيد" مرتبط فى المخيلة العامة بأنه مكان لجمع المتخاصمين والمختلفين، بغية تذويب ما يفصل بينهم من خلافات صعبة تباعد المسافات والمواقف، وتحول دون إحلال السلام والوئام، وتقريب وجهات نظر الفرقاء، وهنا سيقفز تساؤل منطقي ومشروع يجب طرحه، هو: "هل يوجد بين الأطراف الثلاثة الحليفة ما يستدعي ويستوجب إذابته، والتوصل لتفاهمات بشأنه؟!

الجواب، ولا تستغرب، سيكون بالإيجاب، لأن العلاقة بين "سول" و"طوكيو" لم تكن في أفضل وأزهى أحوالها على طول الخط، نظرًا لمعاناتهما من رواسب وعوائق تاريخية متصلة بفترة احتلال اليابان لشبه الجزيرة الكورية ما بين ١٩١٠ ـ ١٩٤٥، والتى شكلت منغصًا دائمًا لجهود تقاربهما، بالإضافة إلى أن اليابان وكوريا الجنوبية كانت لهما تحفظاتهما واعتراضاتهما على نواح بعينها تخص بعض السياسات الأمريكية حيال شرق آسيا، وتتعارض مع مصالحهما السياسية والعسكرية والاقتصادية بالقارة. 

إتمام اللقاء الثلاثي وما تمخض عنه يبين بجلاء أن الأقطاب الثلاثة تفاهموا ونجحوا فى تسوية وسد الفجوات الفاصلة بينهم، وأن مخرجات قمتهم فى "كامب ديفيد" كانت أشبه بإبرام معاهدة سلام، حتى تتوحد جهودهم كقوة ضاربة ضد عدوهم المشترك والأخطر الصين، وبالرجوع إلى بيانات رسمية أمريكية سيلفت نظرك إشارتها المتكررة إلى أن القمة جاءت ثمرة يانعة لجهد دؤوب استغرق عامين. 

الوجه الثاني لرمزية "كامب ديفيد" أنها دشنت الشكل الجديد للتحالف الأمريكي - الياباني الكوري الجنوبي، وذلك بالنظر إلى النتائج المعلنة وتغطي تقريبًا كل المناحي الخاصة بالعلاقات الثنائية، ومن بعدها الإطاران الإقليمي والدولي، إذ تضمنت عبارات ليست بروتوكولية مطاطة عن التنسيق والتعاون، لمجابهة خطر كوريا الشمالية وترسانتها الصاروخية والنووية، والصين وتحركاتها وإجراءاتها غير المريحة، من وجهة نظرهم، في بحر جنوب الصين وتجاه تايوان والمحيطين الهادئ والهندي، لكنها أوردت ونصت على خطوات وآليات للدفاع الجماعي، في حالة تعرض أيهم لعدوان ومخاطر محدقة، فالمعركة ستكون جماعية وليست فردية.

ترافق مع ما سبق بنود تتعلق بالأمن السيبراني والاقتصادي، ودعم سلاسل التوريد العالمية، حتى لا تتعطل، مثلما جرى مع تفشى وباء "كورونا"، الذي يطل ثانية علينا هذه الأيام، وكلما اشتعلت المناوشات الأمريكية الصينية، وزادت حدتها وسخونتها، وسط أحاديث تمتلئ بها الساحة الدولية عن احتمال نشوب حرب بين بكين وواشنطن على أرضية الرقعة الآسيوية. 

اللافت أيضًا أن محصلة قمة "كامب ديفيد" صيغت عناصرها وبنودها بشكل يُصعب على القادمين خلف القادة الثلاثة في مقعد السلطة التراجع عنها، أو التنصل منها، فهي أقرب لزواج أبدي لا طلاق فيه، وأبرز كل طرف فيها أن الغرض النهائي منها، هو أن ينعم ويهنأ العالم المضطرب ويسوده التوتر بالسلام والحرية والرخاء، ولذلك وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن، نتائجها بأنها ستصمد أمام اختبار الزمن. 

أما غير المعلن والمسكوت عنه فإنها شكلت نسخة آسيوية مصغرة من حلف شمال الأطلنطي "الناتو"، والمستهدف منه واضح وضوح الشمس وهو الصين التي تثير قلق ومخاوف القوى الإقليمية ومعها الولايات المتحدة، بسبب صعودها الزائد على الحد، ويجعلها ندًا ثابتَا لأمريكا ونفوذها الكبير في القارة الآسيوية ودوليًا، وبما يمكنها من إزاحتها من على كرسي السيطرة المتناهية الذي تحكم قبضتها عليه، منذ زمن بعيد. 

لذلك تحاول السلطات الأمريكية قدر استطاعتها إخفاء هذا الجانب، بل ونفى صحته على لسان مسئول رفيع المستوى، هو "جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي الأمريكي، ولم يجد النفي الأمريكي المعلن آذانًا مصغية فى بكين التي وجهت تحذيرًا شديد اللهجة يتلخص في أنه لا ينبغي لأي دولة أن تسعى لحماية أمنها على حساب مصالح البلدان الأخرى، والسلام والاستقرار الإقليميين، وبالتأكيد فإن الصين لن تقف موقف المتفرج على الترتيبات الأمريكية الأخيرة التي سترفع منسوب التوترات والهواجس في آسيا والمحيطين الهادئ والهندي. 

وحتى مع اشتراك اليابان وكوريا الجنوبية ضمن "الناتو الآسيوي" فإنهما مطالبان بألا يغلقا الباب تمامًا في وجه الصين، لأنها بقعة بالغة الأهمية لأنشطتهما الاقتصادية والاستثمارية والمقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وليس بمقدورهما التفريط فيها، أو تعريضها لتهديدات سيكون لها مردودها السلبي على اقتصاديهما، ومعهما الاقتصاد العالمي، فهما بتحالفهما الوثيق مع أمريكا يحميان مصالحهما، وفي عالم السياسة ليس هناك صداقة أو عداوة دائمة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: