كلما ارتفع صدى أى حدث فنى أو ثقافى بشكل واسع فى توقيت يتزامن مع معايشة أوضاع اقتصادية صعبة، ارتفعت معه أصوات تنادى بدعم الضروريات أولًا وترك الكماليات ــ كما يظن البعض ــ لوقت آخر، قد يبدو الأمر وكأنما هذا النداء هو صوت العقل الداعى لترك دعم الفن والثقافة باعتبارهما تدليلًا لما بعد تخطى المرحلة، ولا مانع أن يرتدى مؤيدو تلك الدعوة قناع الحكمة والوقار، بل وعباءة الدين إن لزم الأمر!
هذا الجدل حول تفنيد ضروريات الحياة ليس جديدًا، فدائمًا ما تعالت أصوات مؤيدي التقشف الثقافى خلال الأزمات الاقتصادية العالمية عبر التاريخ، يطلقون مدفعية التشكيك حول جدوى الدعم الاقتصادى المخصص للثقافة والفنون واعتبارها خارج قائمة الأولويات، ذلك وفقًا لتقديراتهم الخاصة بالطبع، ومع تغير الزمن لم تتغير آلية الاستهداف، بل تزايد فتح النيران على الفن باعتباره ضربًا من «الرفاهية»، تلك الفكرة التى قد تبدو بريئة، بينما تُضمر الكثير من الخبث والخبائث، ولا تحمل معها إلا تمكين قوى الظلام والجهل والإحباط.
ولنطرح السؤال، هل الفن رفاهية؟ أم هو ضرورة أساسية نحتاج إليها؟ وأين الحد الفاصل بينهما؟ الرفاهية كلمة تدل على ما هو فائض ويتجاوز الاحتياجات، ولكنه مرغوب إن توافرت الفرصة لتحمل تكلفة استهلاكه، فهل ينطبق ذلك على الفنون والثقافة؟
بفرض صحة تلك النظرية، سنجد أنها تطالب بوقف الدعم والاستثمار فى كل شيء إلا الضروريات، والإنصات لتلك الدعوة يعنى التركيز على تلبية احتياجاتنا الأساسية المركزة فى ثلاثة محاور، التغذية والسكن والصحة، أى ما يضمن الوجود الحيوى للإنسان، وهو ما لا يشمل الثقافة ولا الفن، الأمر نفسه قد يسرى على الرياضة والسياحة والبحث العلمى والتعليم العالى وحتى بعض من إجراءات الأمن أيضًا، وغيرها من بنود قد تقع من وجهة نظر البعض تحت تصنيف الرفاهية!
الحجة التى يتبناها مؤيدو هذا الاتجاه، هى أن الحياة ستستمر حال استغنينا عن الرسم والغناء والسينما والأوبرا والمعارض وغيرها من مجالات الابتكار والإبداع.. من هنا تبدأ وتنتهى حجتهم، ومنها قد يصدر الحكم بتقنين أو إعدام الفنون، ولو إلى حين ميسرة، ــ وحينها لن تقوم لها قائمة ــ بل واعتبار ذلك فى حكم الواجب، وإن لزم الأمر لا مانع من تقديم حجج دينية غير منطقية ولا مثبتة، لكنها قد تلقى رواجًا شعبيًا عن غير وعى.
ردع كل من تسول له نفسه دعم أو تمويل مشروع ثقافى أو فنى حاليًا هو الهدف، وتشويه أى جهود سواء من الحكومة أو القطاع الخاص للنهضة بهذا القطاع التنويرى، فباختصار «للضرورة أحكام» كما يقول المثل، وكما يقول هؤلاء بنبرة النصح والإرشاد وبطمع واضح!
الأكيد هو أن قدرة الإنسان على تحمل أى ظروف، خاصة الاقتصادية، تكمن فى شعوره بإنسانيته عبر المسرات الحسية، سواء كانت مرئية أو سمعية أو بصرية، فهى مساحة التعبير وممارسة الحياة بشكل يتجاوز مجرد الوجود المادى وحسب، صحيح لن يموت أحد من الجوع إن اختفت الأغانى والأفلام والأعمال الفنية عن وجه الأرض، لكن لا شك أن الكل سيصاب بالاكتئاب!
لنقل لا لأصوات تسعى لتهميش دور الفن فى حياتنا، ادعموا واستثمروا فى مشروعات الفن الحقيقى والإبداع والثقافة والابتكار، انفضوا عنكم النظريات قصيرة النظر، فلطالما صمدت الشعوب بالفنون، ولنتأمل تاريخ مصر الفنى لنجد الكثير من الإجابات الراسخة، فلا الثقافة رفاهية ولا الفنون يقاس عائدها أو كلفتها بالعملات، بل بما تقدمه للإنسانية من قيم الاستثمار فى البشر والمستقبل، وتلك لابد تدر علينا بالخير والحرية والفكر المستنير، وقد يكون الخطأ الأكبر ليس اعتبار الفن والثقافة رفاهية فحسب؛ بل واعتبارها ترفيهًا للتسلية، فهنا مكمن الشر والمغالطة الكبرى التى تنبع منها دعاوى الظلام.