لا شك أن "قصور الثقافة" تمثل صروحًا ضخمة بما لها من إمكانات وخبرات إدارية وفنية متراكمة وبنية تحتية مكتملة. ولا ريب أنها تقدم خدمة ثقافية لا غنى عنها للشارع المصري، غير أن خدماتها تبقي محدودة بميزانية سنوية ومحكومة ببيروقراطية ورتابة تسللنا إليها من أروقة الأداء الوظيفي الرتيب، ومن تقادم الزمن بلا حماس للتطوير ومواكبة التغيرات العصرية العالمية، لا سيما في مجالات الثقافة والفنون.
من المفهوم أن الأزمات الاقتصادية التي تلاحق ميزانية الدولة بشكل عام لها تأثيرها الممتد نحو "قصور الثقافة" والعمل الثقافي بصفة عامة. إن الملاحظ هو أن حالة الركود والجمود تلك، والتي لا يحركها سوى بعض الفعاليات والمبادرات السنوية، هي حالة تهدد دور "قصور الثقافة" ورسالتها في مقتل إذا دامت.
الأمر الذي يتطلب القيام بمحاولة لإعادة استغلال القصور الثقافية واستهدافها بخطط تنموية مرحلية تستهدف تنشيط خدماتها وتفعيل دورها الثقافي وتعظيم روافد هذا الدور .
ولأن مثل هذا التطوير يتطلب بالتأكيد تمويلا ومجهودًا كبيرًا قد لا تقوى عليه الميزانية السنوية المخصصة لهيئة قصور الثقافة. فربما استطاع تضافر الجهود الشعبية والمشاركة المجتمعية وتكامل الرؤى المشتركة وتشابك أيدي المهتمين بأمر الثقافة في مصر.
ينطلق هذا المقترح من رحم دعوة وزير التعليم الذي أكد أن مجانية التعليم فيها نوع من الظلم للحركة التعليمية بأسرها، فإذا كان هذا هو الحال في وزارة التعليم، فإن وزارة الثقافة أولى بتحويلها من وزارة خدمية تقدم الثقافة مجانا إلى وزارة تستثمر في عقول أبنائنا وإبداعاتهم.
هذا المقترح الذي يطرح فكرة تطوير قصور الثقافة وتحويلها إلى ما يشبه (الكومباوند الثقافي) المتكامل والذي ينحصر في ستة أهداف أو أسس أو ركائز هي:
1- مضاعفة شرائح المستفيدين..
* لا يتجاوز عدد المستفيدين السنوي بخدمات "قصر الثقافة الواحد" بضعة مئات سنويا، ربما بسبب ضعف الدعاية أو قلة الأنشطة.. إلى جانب أسباب اقتصادية وإدارية أخرى.
* ومن أجل التطوير المادي لإمكانات هذه الصروح الثقافية، لابد أولا من تعظيم حجم وأعداد المشاركين في الانتفاع بخدماتها لكي يصل إلى عدة مئات الآلاف سنويا، مع زيادة سنوية مطردة.
* لتحقيق هذا الهدف الضخم، هناك حاجة لتنفيذ عدة خطوات ضرورية تتم علي مسارين أساسيين:
1- إعلامي تسويقي.
2- إداري تنظيمي.
إلي جانب تحقيق تقدم مواز في بقية المسارات والأصعدة.
*إذا تم تحقيق تلك الخطوة، فهو شوط هائل وخطوة أولى عظيمة لضمان تطوير ذاتي يستمر من خلال المشاركة الشعبية الفعالة.
2- فتح المجال الواسع لعمالة الشباب بمكافآت رمزية:
*الأجور الشهرية تمثل عائقًا وحجر عثرة أمام أي مشروع حكومي بسبب عظم التكلفة التي تقتطع أكثرها للوفاء بأجور العاملين.
* إلا أن هناك قطاعًا كبيرًا من النشء ومن الشباب علي استعداد لتقديم طاقاتهم بلا أجر، أو مقابل مكافآت رمزية (عينية أو معنوية).
* من الممكن تقنين إجراءات إدارية لتنظيم وتوظيف طاقات الشباب والنشء المحب للثقافة، لا سيما طلبة المدارس والمعاهد والكليات للمشاركة بأفكارهم وأوقاتهم وجهودهم لتطوير وتفعيل أنشطة قصور الثقافة.
* إلي جانب هؤلاء، هناك أصحاب الخبرة ممن أحيلوا إلي المعاش، وهم على استعداد لتقديم خدماتهم الفكرية والثقافية مجانًا أو بأجور رمزية.
* أما الهدف الأسمى الذي يسعى الجميع نحوه، ويتم إبرازه من خلال البيانات التسويقية للمشروع التطويري، هو السعي نحو الارتقاء بالمنتج الثقافي المصري كمًا ونوعًا من خلال تضافر الجهود الشعبية متخذين قصور الثقافة منطلقًا لتلك الجهود وبوتقة لتفجير الطاقات الإبداعية للشباب.
3- تحويل المسار الثقافي من خدمي إلى استثماري:
*من الضروري أن يكون مشروع قصور الثقافة مشروعًا مُدِرَا للأرباح السنوية ليس فقط لتحقيق تطويره الذاتي، بل للمساهمة في زيادة الدخل القومي.
* إن العالم بأسره اليوم يشهد تحولا في النظر إلي الثقافة باعتبارها مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي على الصعيدين (الحكومي والخاص)، ليس فقط من خلال السينما والفنون، بل ومن خلال كافة روافد الثقافة الشعبية، بل إن بعض حالات الاقتصاد الثقافي أثبتت فيها الأرقام تفوقًا للثقافة على الصناعات الثقيلة من حيث العائدات، والكلام هنا عن دول صناعية مثل بريطانيا وأمريكا.
* تلك التجارب الدولية شهدت نوعًا من التلازم بين المنتج الثقافي والترفيهي باعتبارهما شيًئا واحًدا. إذ إن الثقافة في ذاتها منتج جامد صعب الهضم إلا من خلال لفافة سوليفان المنتج الترفيهي ليسهل ابتلاعهما.
* هناك عشرات الأفكار والرؤى في هذا الإطار، ومن الممكن تحقيقها ودراستها من خلال دراسات جدوى لبيان قابليتها للتطبيق، وجداوها الاقتصادية والفنية، وطريقة تنفيذها المناسبة مرحليًا أو بالتوازي.
* هذا وينبغي عدم المساس بمجانية بعض الخدمات، لكن يضاف إليها خدمة أخرى تهدف للربح، وخدمة ثالثة مميزة للقادرين.
4- تعظيم حجم الإنتاج الثقافي السنوي:
(من عشرات المنتجات إلي بضعة آلاف.. ومن بضعة صنوف نوعية إلى عشرات الأنواع)
* إنه ومع تحقيق الأهداف الثلاثة الأولى، ومع تحقق وجود التمويل الكافي – ولو جزئيا- سوف يكون من المستطاع مضاعفة حجم الإنتاج الثقافي إلى عشرات الأضعاف.
* هناك العشرات من الأفكار يمكن تفعيلها في هذا الصدد، من خلال المسابقات، وورش العمل، ودورات التدريب، ومجموعات العمل، والأنشطة الإلكترونية.. وغيرها من الفعاليات التقليدية أو المبتكرة في مختلف الأنشطة الثقافية والحرفية والفنية.
* بعض هذه المنتجات قد يكون قليل الرواج بطبيعة الحال.. وبعضها الآخر في المقابل قد يصل إلى مراتب تتجاوز الرواج المحلي إلى العالمية. وهو هدف آخر من أهداف هذا المقترح التطويري، ألا وهو الوصول بجودة المنتج الثقافي السنوي إلى مستويات عالمية تنافسية.
5- بروتوكولات التعاون المشترك:
* مع تحقق نتائج على الأرض، ومع المجهودات المتوالية للتطوير سوف يتم التحرك نحو جذب أنظار المستثمرين الكبار ومقدمي الخدمات الثقافية والفنية محليا ودوليا وإقليميا حتى يصير من الممكن جذب استثمارات أكبر، ولتفعيل أدوار مؤسسة أعظم للإسراع بإنجاح تجربة التطوير.
ومن أمثلة المؤسسات المستهدفة بالتعاون الاستثماري والفني:
1- دور النشر الكبرى، والمؤسسات الصحفية (الحكومية والخاصة).
2- رجال الأعمال.
3- الملحقيات الثقافية بالسفارات العربية والأجنبية.
4- الالتحام بالثقافة الإقليمية والعالمية:
* كثافة الإنتاج الثقافي السنوية، ومع وجود التدريب والخبرة وتلاقح الثقافات محليا وإقليميا من شأنه أن يصل بالمنتج الثقافي إلى حد يصير معه قادرًا علي التنافس والامتزاج وربما التأثير في ثقافات أخرى إقليمية أو دولية، كما هو حال الثقافة المصرية في أزمان سابقة قريبة العهد بنا.
* المستهدف هو أن تكون هناك منتجات ثقافية راقية تصل إلي حد كونها قابلة للتصدير وتدر الأرباح المادية عبر الحدود.
وختاما أتصور أن مقترح مشروع (الكومباوند الثقافي) قابل للتنفيذ.. ولا يكلف الدولة قرشًا إضافيًا من الميزانية السنوية.. ولا يمثل عبئًا على الميزانية.. بل على العكس سوف يحقق عائدات تتنامي باستمرار، وقد يستطيع تحقيق طفرة على الصعيدين الثقافي والمادي معًا إذا كتب له النجاح.
أخيرا.. هذا المقترح يدعو وزيرة الثقافة الدكتورة نيفين الكيلاني لتدارس إمكانية تشكيل لجنة من أصحاب الرؤي والطموح لعمل تصور متكامل لتحقيق مشروع تطوير "قصور الثقافة" ثم تنفيذ ما تقرره اللجنة تباعًا متخذين أحد (أو بعض) قصور الثقافة، كنموذج تنفيذي للمرحلة الأولى منه. وبعد الدورة التنفيذية الأولى للمشروع يمكن تقييم التجربة والبناء عليها، ثم – ربما – تعميم التجربة في حالة نجاحها من خلال مراحل زمنية متتابعة.
[email protected]