خلل الأمة في فقه الأولويات

13-8-2023 | 16:42
الأهرام المسائي نقلاً عن
  • حينما كنت شابا كان هناك رجل مسن متدين يواظب على صلاة الفجر في المسجد ثم ينطلق بعدها إلى الشوارع ليجمع الصحف القديمة الملقاة في الشوارع ثم يحرقها في ساحة متسعة قرب المسجد الكبير.
  • سألناه عن سر ذلك فأجاب: هذه الصحف فيها آيات قرآنية وفيها اسم الله مع أحاديث نبوية، وابتذالها هكذا يعد منكراً لابد من تصويبه.
  • قلنا له: هذا أمر لن ينتهي وسيشغلك عما هو أهم وأفضل، فلن يتوقف الناس عن امتهان الصحف وإلقائها في الشارع بعد قراءتها ولن تستطيع المواصلة.
  • أبي التراجع عن طريقه، كان الرجل صاحب نية طيبة وعزيمة ماضية ولكنه كان شديد المراس، فظاً في طريقته، كان يدقق على صلة الصفوف وتقاربها ويهتف قبل بدء الصلاة: "من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله" اغتاظ بعض المصلين كبار السن فردوا عليه بعد فترة "الله يقطعك يا شيخ" اضطر لحذف المقطع الأخير واكتفى بالأول.
  • راقبت الرجل فوجدته قد أضاع معظم جهده ووقته، في هذين الأمرين، ولو بذل نصف هذا الجهد في طاعات أخرى تنفع المجتمع لكان أولى وأجدى تفكرت في أمر الرجل وفي تصرفاتنا ونحن شباب فوجدت أنها أضاعت "فقه الأولويات" الذي دشنه النبي الكريم "صلى الله عليه وسلم" وأشار إليه القرآن.
  • ويعني "فقه الأولويات" "وضع كل شيء في مرتبته فلا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير ولا يصغر الأمر الكبير ولا يكبر الأمر الصغير".
  • دشن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقه الأولويات عبر أحاديث كثيرة فقد سأله ابن مسعود رضي الله عنه "أي العمل أفضل؟ قال الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قال ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله".
  • وأخبرت عائشة عن النبي "صلى الله عليه وسلم" فقالت "ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه"، كان يقدم التيسير على التعسير .
  • وهذا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو يضع مراتب الكبائر سأله ابن مسعود رضي الله عنه "أي الذنب أعظم عند الله قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" فقلت: إن ذلك لعظيم قلت: ثم أي؟ قال"أن تزاني حليلة جارك".
  • وقد رتب الفقهاء بناءً على أحاديث الرسول "صلى الله عليه وسلم" أن الزنا نفسه درجات فزنا المحصن المتزوج أكبر إثماً من الأعزب، الزنا بامرأة المجاهد الغائب أسوأ من الزنا بغيرها، والزنا بامرأة جارك أسوأ وأخطر من الزنا بغيرها، أما زنا المحارم فأعلاها إثما وذنباً.
  • فقد قدم الرسول "صلى الله عليه وسلم" الإيمان على العمل الصالح، وقدم العلم على العمل، والفرض على النفل، والكيف علي الكم، والفهم على الحفظ، وقدم الراجح على المرجوح، والفاضل على المفضول، وفرض العين على فرض الكفاية.
  • والعبادات الاجتماعية التي يتعدي نفعها مثل الإصلاح بين الناس ورعاية الأيتام والمعوقين على العبادات الفردية النافلة، ومحاربة الكبائر والموبقات والاهتمام بالواجبات المضيعة على محاربة المكروهات والصغائر.
  • وكذلك تقديم إخفاء التطوعات أولى من إظهارها "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" وتقديم الفرض على الواجب والواجب علي السنة والسنة المؤكدة على المستحب، والقربات الاجتماعية على القربات الفردية، والطاعات المتعدى نفعها إلي الآخرين على ما يقتصر نفعه على فاعله، وعمل الحاكم العادل في رعيته وشعبه علي تطوعه بنوافل العبادات حتى قيل "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة".
  • لقد قيل للشيخ الغزالي ما حكم تارك الصلاة؟ فقال حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد، أي بدلاً من الأخذ والرد في حكمه والاختلاف فيه أفعل الأفضل والأحسن والأرقى وهو أن تأخذه معك إلى المسجد وتنشغل بدعوته للصلاة بدلاً من تكفيره أو تفسيقه.
  • مشكلتنا جميعاً في معايير الأولويات وتغييب فقهها، حتى صرنا نكبر الصغير، ونصغر الكبير، ونعظم الهين ونهون الخطير، ونؤخر أوائل الأمور، ونقدم أواخرها، ونكترث للصغائر ونهون الكبائر، فترى الرجل يسبح كثيراً ولا يتحرز من المال أو الدماء الحرام، فيأخذ الرشوة مثلا دون استحياء، ونهتم بالنوافل علي حساب الفرائض، ونقدم مصالح الجماعات والأفراد علي مصالح الدولة أو الأمة، ونقدم الحرب علي السلام والصراع علي الوئام.
  • فقه الأولويات يجعلك تقدم الأصول علي الفروع ولا تحول السنة إلي فرض، ولا الخطأ إلي خطيئة ولا الخطيئة إلي كفر.
  • فقه الأولويات هو الذي جعل الرسول"صلى الله عليه وسلم"يرد من يريد أن يجاهد معه ليرعى والديه"أحي والداك"قال الرجل"نعم"فقال له ففيهما فجاهد"وقال لآخر"ارجع إلي والديك فأحسن صحبتهما".
  • فقه الأولويات هو الذي يجعلك تفرق بين الكفر والظلم، وبين الكفر والفسق، وبين الكفر الأكبر والأصغر، وبين معصية آدم ومعصية إبليس، وبين معصية الشهوة وإثم الكبر، وبين معاصي القلب والجوارح، فمن كانت معصيته في الشهوة ترجو له خيراً ومن كانت معصيته في الكبر فلا ترجو منه خيراً، معصية آدم كانت في الشهوة فتاب وتاب الله عليه ومعصية إبليس كانت في الكبر فلم يتب.
  • غياب فقه الأولويات هو الذي جعل أهل العراق يسألون ابن عمر عن حكم دم البعوض فأجابهم مستنكراً، قتلتم ابن بنت رسول الله وتسألون عن حكم دم البعوض .

 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة