التغير المناخي| شكوك حول قابلية العيش فى الأماكن المزدحمة.. وأدلة على مستويات تتجاوز قدرة البشر على التكيف

10-8-2023 | 16:19
التغير المناخي| شكوك حول قابلية العيش فى الأماكن المزدحمة وأدلة على مستويات تتجاوز قدرة البشر على التكيفصورة أرشيفية
إيمان عمر الفاروق
الأهرام العربي نقلاً عن

لا أحد يتمتع بحصانة من التغييرات المناخية القاتلة.. ولا إعفاء لأى عضو من أعضاء جسد الإنسان من لهيب موجة الحر الشديدة التى تجتاح العالم. إن من يجرؤ اليوم أو تضطره الظروف ليصطلى بلهيب أشعة الشمس يقوم بنوع من التحدى ينافس تحديات «التيك توك « الخطيرة. لم يعد الأمر مجرد إعياء أو ما يعرف «بضربة شمس» وحفنة كمادات كفيلة بإزالة آثار المعركة، ولكن مصطلح «الإجهاد الحرارى» أضحى فضفاضا، واتسع نطاقه ليغطى الجسد بكل خلاياه وأعصابه إنه نوع آخر من الدمار الشامل.. ولكن يثور سؤال: كيف اختلفت قدرات البشر على التكيف مع التغيرات المناخية مع مرور الزمن؟ وكيف تتربص بنا الموجات القادمة لتختبر قدرتنا ليس على التكيف بل البقاء؟

موضوعات مقترحة

الأجواء المناخية تغيرت بدرجة درامية مأساوية، ووهنت قدرة الإنسان على التكيف معها. ففى كتاب "الصيف الطويل" لبريان فاغان، عالم الإنسانيات والآثار، الذى قام بترجمته د. مصطفى فهمى، لاحظ المؤلف أن الإنسان البدائى الصياد جامع الثمار ،كان أكثر قدرة على التكيف مع تغير ظروف المناخ والبيئة، فهو إذا قلت حيوانات الصيد أو الثمار التى تؤكل، لديه حل يسهل عليه تنفيذه وهو الهجرة إلى أقرب منطقة أخرى يجد فيها احتياجاته البسيطة البدائية، وهذه المناطق الأخرى تتوافر تماما مع قلة عدد السكان وكثرة مساحات الأرض البراح والغابات بلا قيود. أما مع نشأة الزراعة والمدن والحضارة فإن الإنسان يصبح مرتبطا بالأرض المزروعة ومقيدا بنظم اجتماعية تجعله أكثر رفاها وأقل قدرة على التكيف مع التقلبات الطارئة، خصوصا إذا كان زمنها طويلا، فدرجات الحرارة المرتفعة بشكل غير مسبوق ولا يحتمل، تختبر بالفعل حدود قدرة الإنسان على البقاء، وسوف تواصل ارتفاعها وتتحدى قدرة أجسادنا على التأقلم والتكيف وتجعل أجزاء من العالم غير صالحة للسكن على نحو متزايد.

يقول العلماء: إن هناك حاجة إلى خطوات عاجلة، لكى يتكيف البشر مع الحرارة الشديدة، بما فى ذلك إعادة التفكير فى الطريقة التى نحيا ونعمل وفقا لها. البروفيسور ستيفن تشيونج، خبير الإجهاد البيئى بجامعة بروك يقول: "الأمر يشبه إلى حد كبير طهو البيض فالسبب فى انتقالها من كتلة سائلة إلى كتلة بيضاء صلبة هو تغير البروتينات فإذا استمر جسم الإنسان فى التعرض للحرارة، وفقد القدرة على التحكم فى درجة حرارة جسده، فسوف تقوم البروتينات فى النهاية بنفس الأمر فى خلايا الجسد، ولن يكفى الجلوس فى الظل وشرب الماء, بل ينبغى القيام بعملية تبريد للشخص المصاب بضربة شمس بأسرع ما يمكن ".

يقول مايكل براور -الأستاذ فى كلية السكان بجامعة كولومبيا- إن الشعور بالحر الشديد فى وقت النوم، يجعل من الصعب علينا الاستسلام للراحة، مما قد يؤدى إلى ضعف اتخاذ القرار، ويكون له تأثير سلبى على الصحة العقلية للأفراد والصحة العامة ". وبالنسبة لأى شخص يفترض أنه يستطيع تدريب جسده على التعامل مع ارتفاع درجات الحرارة، يقول تشيونغ الذى ساعد الرياضيين الكنديين فى عملية التأهيل والاستعداد للتعامل مع موجات الحر والرطوبة فى أولمبياد طوكيو: "إن التكيف ممكن إلى حد ما خلال فترة تبلغ نحو أسبوعين من التعرض التدريجى والمستمر للحرارة، وربما كانت أهم المزايا التى يتمتع بها البشر هى القدرة على تطوير الأشياء مثل السكن أو الملابس لتصبح ملائمة مع الدرجات القياسية للحرارة، لكن للأسف هذا يتطلب تكلفة مرتفعة ويؤدى إلى زيادة استهلاك الطاقة. وهناك فئات كثيرة ليس بمقدورها البقاء فى الداخل والحفاظ على برودة أجسادها بما فى ذلك أولئك الذى تنطوى وظائفهم على مجهود بدنى فى الهواء الطلق مثل المزارعين وأصحاب الحرف اليدوية.

ويرى الخبراء أنه فى المستقبل سيتعين تغيير دورة العمل اليومية، حتى يتمكن هؤلاء العمال من تجنب الفترة الأكثر سخونة من اليوم. كذلك تحتاج المدن نفسها إلى التبريد, وهذا يشمل تصميم المبانى وتعديلها مع مراعاة الحرارة وزراعة المزيد من الأشجار وطلاء أسطح المنازل باللون الأبيض، لتعكس الضوء بدلا من امتصاصه, ومن الأهمية بمكان أن يكون للأبنية مصدر طاقة احتياطى، لضمان استمرار عمل مكيفات الهواء والمراوح.

ويلفت نظرنا كاسكيد توهولوسكى - الباحث فى مركز علوم الأرض بجامعة كولومبيا - إلى أن البلدان الفقيرة، حيث يعتمد السكان على الزراعة، سوف تشهد هجرة جماعية إلى المدن التى هى ذاتها غير مؤهلة للتعامل مع الحرارة المتزايدة. وتثور شكوك حول قابلية العيش فى العديد من الأماكن الأكثر اكتظاظا بالسكان على كوكب الأرض.

مسارات الموت

 وكشفت دراسة قام بها كاميلو مورا -عالم المناخ بجامعة هاواى- بعنوان "27 طريقة تقتلك بها الموجات الحارة: الحر القاتل فى عصر التغير المناخي" أن موجات الحر والأحداث المتفرقة للحرارة الشديدة، باتت تمثل تهديدا لحياة الإنسان. إن الوفيات التى تجاوزت 70000 شخص خلال الموجة الحارة الأوروبية عام 2003، و10000 شخص خلال موجة الحر الروسية عام 2010 ، وعدد القتلى المتزايد على يد موجات الحرارة المتتالية، هى أدلة مذهلة ودامغة على أن الظروف المناخية القاسية تتجاوز بالفعل قدرة الإنسان على التكيف معها والتبريد الحرارى. وبتتبع المسارات الفسيولوجية للحرارة القاتلة ثبت أن جسم الإنسان شديد الحساسية للحرارة، وأن موجات الحرارة المرتفعة يمكن أن تسبب أضرارا بالغة بأى شخص حتى الشباب والأصحاء بطرق تتجاوز أمراض القلب والأوعية الدموية. مجلة "ناشيونال جيوجرافيك " أشارت إلى نتائج دراسة حديثة، وجدت أن أكثر من ثلث جميع الوفيات الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة فى جميع أنحاء العالم يمكن أن تعزى إلى التغير المناخى.

وقامت دراسة نشرت بموقع Nature climate change بمحاولة تقييم التكلفة البشرية لموجات الحرارة الممتدة والطويلة والأكثر سخونة، وأفاد فريق بحثى مكون من 70 باحثا، قام بدراسة 732 موقعا بقارات العالم الست بأن 37 % من حالات الوفاة الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة تتربط بالتغير المناخى بشكل مباشر. وتؤكد الدراسة على الضرورة الملحة للتصدى لتغير المناخ الذى يسببه البشر على نحو ما أكدت آنا فيدسيو كابريرا، المشرف الرئيسى للدراسة والخبيرة بعلم الأوبئة فى جامعة برن بسويسرا.

تؤدى الظروف المحيطة التى تمنع تبديد حرارة الجسم كارتفاع نسبة الرطوبة على سبيل المثال إلى استجابات فسيولوجية خطيرة أو مسارات محددة كانت موضع اهتمام طبى كبير لفئات خاصة مثل العسكريين والرياضيين وأصحاب المهن المعرضة للحرارة الشديدة كالتعدين. حددت العديد من الدراسات آليات فسيولوجية ناتجة عن التعرض للحرارة المرتفعة وهى نقص المياه، التسمم الحرارى للخلايا، الاستجابة الالتهابية، تخثر الأوعية الدموية. وعدد من الأعضاء الحيوية يمكن أن تتأثر بشكل خطير جراء التعرض للحرارة المرتفعة مثل الدماغ والقلب والأمعاء والكلى، الكبد والبنكرياس والرئتين.

يمكن أن ينتج الموت من الحرارة الشديدة عن طريق مسار واحد أو عدة مسارات. عندما يتعرض جسم الإنسان للحرارة يتم إطلاق استجابة قلبية وعائية تعمل على توسيع الأوعية الدموية لإعادة توجيه الدم من القلب إلى محيط الجسم، حيث تتبدد الحرارة فى البيئة. ينتج عن هذا عدم كفاية تدفق الدم إلى بعض الأعضاء بالجسم، فيحدث ما يطلق عليه "نقص التروية "مما يؤدى بدوره لاحقا إلى نقص الأكسجين. وتنشط آلية أخرى من آليات الإتلاف الحرارى، عندما تتجاوز درجة حرارة الجسم التكيف الحرارى للخلية، فيحدث تسمم حرارى للخلايا. كلاهما نقص التروية والتسمم بالحرارة يسببان موت الخلايا ويقوضان سلامة الأغشية.

وكدائرة قاتلة يمكن أن يؤثر تلف الخلايا، جراء التعرض للإجهاد الحرارى على عمل العديد من الأعضاء. كالقلب مثلا، حيث تؤدى العوامل المركبة من التسمم الحرارى للخلايا ونقص التروية ونقص البوتاسيوم بالدم بسبب فرط التعرق والتبول إلى ضعف عضلة القلب. يمكن أن يتفاقم الضغط على القلب بسبب الجفاف الذى يؤدى إلى تخثر الدم ويسبب ضيق الأوعية الدموية، مما يزيد من مخاطر تجلط الشرايين التاجية والسكتة الدماغية، فضلا عن تأثير تسمم الخلايا ونقص المياه أو الجفاف على الكلى مسببا مضاعفات خطيرة.

يمكن أن يؤدى التسمم الحرارى للخلايا ونقص التروية إلى تكسير أغشية الخلايا مما يفتح المجال لنفاذ مسببات الأمراض والسموم لمختلف الأعضاء.فى البنكرياس يؤدى تآكل الجدار المبطن إلى تسلل الكريات البيضاء مما يسبب تفاقم التهاب البنكرياس. وفى الدماغ تتسلل السموم الضارة ومسببات الأمراض مما يزيد من خطر تلف الأعصاب. وبالأمعاء يسمح تآكل الغشاء المخاطى بتسرب البكتيريا والسموم إلى الدم، مما يؤدى إلى التعفن والالتهابات. أحيانا تحدث حالة تعطيل للتوازن بين وظائف الأعضاء عن طريق تفاقم التسرب والارتشاح من الأعضاء المصابة. فضلا عن تخثر الأوردة حيث تصبح البروتينات التى تتحكم فى تخثر الدم مفرطة النشاط، مما يؤدى إلى جلطات تعوق إمداد الدم ووصوله إلى الأعضاء الحيوية. وفى المقابل يمكن أن تحدث حالة من استنفاد بروتينات التخثر مما قد يؤدى إلى نزيف قاتل حتى بدون إصابات.

جدير بالذكر أن جميع الاستجابات الفسيولوجية السابقة مترابطة, حيث يكون للخلل الوظيفى فى عضو واحد آثار سلبية على الأعضاء الأخرى مما قد يؤدى إلى الوفاة أو إعاقة دائمة أو مرض مزمن.

العالم فوق فوهة البركان

أمام سطوة لهيب الشمس، يتحول البشر إلى تماثيل من شمع تذوب بلا مقاومة.. يتردد صهيل الاستغاثات بعد ما احترق شعر البعض بالعراق بينما يعالج أبناء أوروبا من حروق من الدرجة الثالثة.. الإنذار الأحمر يرفرف فى سماوات العواصم الأوروبية، حيث كان لموجة الحر غير المسبوقة ضحايا وخسائر طالت السياحة بل التماثيل التى لم تصمد أمام لفحات الحر، وأخيرا ترد أنباء بأن العواصف الشمسية قد تطيح بالبنية التحتية لشبكة الانترنت !

العالم كأنه يلتف بمعطف من الفراء والكون يتصبب عرقا بلفحات الحرارة كأننا فى "صوبة زجاجية"ولسنا بحاجة لاستعراض بيانات الدرجات التى تجاوزت العتبات القياسية وحلقت فى الآفاق الفلكية، فالمواطن العادى يشعر بخداع الأرقام المعلنة، لأن الواقع أشد قسوة وإثارة للمخاوف من المصطلحات التى يسمعها كالقبة الحرارية وظاهرة شبح النينو.

ورغم الحرارة التى غدت كالسوط يجلدنا بلا شفقة، فالأبحاث والتقارير العلمية تؤكد أن هذا الصيف هو الأكثر هوادة، فالموجات القادمة تعتزم اختبار مدى قدرتنا على البقاء.

الظلم المناخى

هناك سلسلة من إجراءات التكيف لمناورة ما يخبئه لنا الكوكب الدافئ، كأنظمة التنبيه والمكيفات وتخضير المدن. وعلى الرغم من أن هذه التدابير الوقائية، قد تم استخدامها بشكل فاعل فى الماضى، فإنها قد لا تكون فى متناول البشرية جمعاء. وحتى بين أولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفها فإن عالم الصيف المستعر الممتد، سيؤدى بشكل متكرر إلى فرض حواجز يسجن البشر خلفها. وقد تؤدى أعطال البنية التحتية مثل انقطاع التيار الكهربائى، إلى أحداث كارثية بالترافق مع هذه العواقب واسعة النطاق على الصحة العامة للإنسان من كوكب يزداد سخونة يوما تلو الآخر، ناهيك عن الآثار المرتبطة بالجفاف والحرائق البرية والعواصف والفيضانات، وارتفاع مستوى سطح البحر. فقد أشار أحدث تقرير للهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ، إلى أن موجات الحرارة باتت تشكل تهديدا لصحة الإنسان، خصوصا كبار السن والفقراء والأشخاص المعزولين، لكن ينبغى الحذر، فإن القول إن بعض القطاعات فقط هى الأكثر عرضة للخطر، يمكن أن يتولد عنه إحساس زائف بالأمان، لأولئك الذين خارج هذا التصنيف للفئات الضعيفة.

وجدت بعض الدراسات الحديثة، أنه بحلول عام 2100 فى ظل معدلات الانبعاث الحالية للغازات الدفيئة سيتعرض 3 من بين كل 4 أشخاص فى العالم لظروف حرارة مميتة كل عام مع زيادة حدوثها فى المناطق المدارية، وستظهر التأثيرات بشكل مختلف مع وجود أعباء اقتصادية كبيرة للتكيف، ربما يتحملها الأثرياء ومعدلات وفيات أكبر بين الفقراء، نظرا للاختلافات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة داخل البلدان، وفيما بينها فيمكن أن تؤدى موجات الحر إلى اتساع رقعة التفاوت العالمى بالصحة، لاسيما بالنظر إلى الموارد المتناقصة للعديد من هذه المناطق.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: