طوف وشوف.. النرويج

8-8-2023 | 13:02

"إنها بلادنا وتلك هى طبيعتها، وطالما نعيش فيها فلابد من الاستمتاع بها"، عبارة رد بها زميلى النرويجى على عتابى له عندما وجدته يقف وسط ميدان كبير ومعه طفلته التى لم تتجاوز الثلاثة أعوام وقد تركها تلعب تحت الأمطار الشديدة التى كنت أختبئ منها تحت مظلتى، لكنه طمأننى وأوضح أنها ترتدى الزى المناسب، الذى هو عبارة عن غطاء بلاستيكى شفاف يغطى الجسم كله فلا تصيبه مياه الأمطار.

عندما أتحدث عن الأمطار فى مدينة برجن النرويجية يجب أن نتوقف كثيرًا ونضع تحت كلمة "أمطار" مئات من الخطوط الحمراء؛ هى أمطار لم نعهدها، ولا أبالغ حين أذكر أنها ظلت تمطر خمسة أيام متواصلة فى إحدى المرات، أمطار شديدة للغاية تتهشم تحت وطأتها المظلات مهما كانت قوتها إذا لم تأخذ حذرك، المظلات هناك أيضًا ثقافة وأسلوب حياة لابد من تعلمه.

بمناسبة المظلات أتذكر فور وصولى إلى النرويج فى فصل الشتاء حين فوجئت بسلات المهملات فى الشارع وقد امتلأت بالمظلات تصورت أن الناس يتخلصون منها لأنها أصبحت قديمة، المظلات فى النرويج لها أشكال متميزة ومتنوعة ورائعة الجمال، وقررت أن أرى ما فى السلة، فجاءتنى الأولى وقد تحطم حديدها، والثانية والثالثة، كلها محطمة، بعد ذلك فهمت أن مجرد غلطة واحدة وأنت تسير تحت المطر، مجرد انحناءة بسيطة للشمسية ضد اتجاه الرياح كفيلة بأن تأخذك وتجرجرك للخلف بمنتهى الشدة والسرعة، وإن لم ترتطم بشيء فلا جدال فى تحطم الشمسية، وقد حدث لى ذلك بالفعل.

وكما وجدتهم يستمتعون بالأمطار وجدتهم يجيدون بشكل رهيب الاستمتاع بالثلج، نظموا لنا فى الجامعة رحلة فى إحدى نهايات الأسبوع للتزلج على الجليد، تصورت أن ذلك سوف يتم فى أحد الشوارع المجاورة، حيث كنت أرى الناس يفعلون ذلك فى كل مكان، كانت الثلوج تغطى كل شيء، حتى البحيرة الكبيرة فى وسط المدينة تتحول مياهها إلى ثلوج ويقومون بالتزلج عليها، لكن يوم الرحلة وجدتهم يأتون بسيارة كبيرة لاصطحابنا، تجاوزت السيارة حدود المدينة ثم بدأنا فى الصعود إلى مرتفع جبلى حتى وصلنا إلى مكان حدوده كلها بيضاء، لا أثر لأى حياة وكأننا صعدنا فوق السحاب بالمعنى الحرفى للكلمة.

بدأ الزميل النرويجى فى إخراج أدوات التزلق وتوزيعها علينا، ثم أخرج "كوريك" صغير وبدأ يحفر فى الثلج، سألته ماذا تفعل قال أصنع "كنبة وترابيزة للجلوس وتناول الغداء"، ظننته يمزح معى إلى أن انتهى فوجدته وقد نحت الثلج وصنع بالفعل "كنبة وترابيزة"، ثم غطاهم بقطع الموكيت التى أحضرها معه وبدأ فى وضع الطعام والمشروبات عليها.

عندما أبديت إعجابى واستغرابى، قال لى لعلك تتعجب أكثر عندما تقضى معنا هنا إجازة نهاية الأسبوع وتبيت هنا، أبيت هنا! أين وكيف؟ قال وكرر ما قاله زميله الآخر، يا صديقى تلك بلادنا وتلك هى الأجواء التى لابد وأن نتعايش معها ونستمتع بها، كثيرًا ما أحضر ومعى زوجتى إلى هنا لقضاء إجازة نهاية الأسبوع .

أقوم بحفر كهف صغير فى الثلج وأفرشه كما رأيت الآن، ونحضر المأكولات والمشروبات والشموع ونقضى ليلة رائعة ثم نعود إلى المنزل فى اليوم الثانى، نظرت إليه بمنتهى الإعجاب، ثم قلت للأسف لا نستطيع أن نفعل ذلك فى بلادنا، ليس عندنا ثلوج، فابتسم الزميل النرويجى قائلً : استمتع ببلادك أيا كانت ظروفها.

لا أنكر أننى قد تعلمت منهم الكثير، كان ذلك أحد الأمور التى تعلمتها، استمتع بالمكان الذى تعيش فيه قدر الإمكان، لا يشترط كثرة المال للاستمتاع، لكنها ثقافة، هم قد يستمتعون بالأمطار، لكن يعدون لها العدة من ملابس ومظلات...إلخ فلا تصيبهم الأمراض، نحن نخجل من حمل المظلة فى الشتاء، وبالطبع إن ارتدى أحد ذلك الكيس البلاستيكى وقرر الاستمتاع بالمطر فسوف يجد نفسه على اليويتوب بعد ثوانٍ تحت عنوان "هارب من مستشفى المجانين"!!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة