تتقدم الإنسانية من مرحلة إلى مرحلة؛ عندما تنفض عنها الأوهام والأساطير التي جاءت نتيجة عجز الإنسان عن تفسير ما يحدث حوله، وتطوع البعض بخلق مفاهيم وأفكار وهمية تفيد أغراضهم ومصالحهم.
لم تتطور أوروبا إلا بعد أن تحركت بعيدًا عن أساطير ما قبل الإصلاح الديني، ونحو استكشاف الحقيقة المبنية على استخدام العقل وتبين الوحي الديني الحقيقي.
مازالت الأمة الإسلامية تعيش هذه المرحلة التي تتصارع فيها الأساطير والتفسيرات الفقهية التي بُنيت على مصالح أو على عدم وعي، مع الجهود المبذولة، لاستيعاب الحقيقة المبنية على المفاهيم الإلهية التي جاء بها القرآن الكريم.
في هذه المرحلة البالغة الصعوبة رأيت أن كاتبًا مفكرًا عربيًا استطاع أن يضع أصابعه على جوهر هذا الصراع، وأن يستكشف طريق الخروج من هذا المخاض.
لقد لفت اهتمامي بشكل عميق كتاب «المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي» للكاتب والمفكر العربي على الشرفاء الحمادي، وفوجئت بالجرأة البالغة والشجاعة التي يقدم بها الكاتب أفكاره في مواجهة جيوش الفقهاء والمفسرين الذين استغلوا الدين الإسلامي بكتاباتهم وتفسيراتهم.
ويتحدث الكاتب عن أن ما يحدث في الواقع هو هجر للقرآن الذي هو المصدر الإلهي الوحيد لتوجيه البشر، وبالعكس الالتفات إلى التفسيرات الموروثة التي تأثرت بزمانها وظروفها، والتي في النهاية هي اجتهادات بشرية تخطئ وتصيب.
وفي المقدمة، يطرح الكاتب أهمية التنوير وإصلاح الخطاب الديني، ويرحب بجهود الرئيس عبدالفتاح السيسي في الدعوة إلى إصلاح المسار.
لقد استوعب الكاتب أبعاد الموقف المتأزم الذي يواجه المجتمع الإسلامي، وأمعن في البحث عن أسباب الوصول إلى هذه الحالة التي تفرق فيها المجتمع الإسلامي إلى فرق وشيع، وانتشرت الأفكار التي تدعو إلى استخدام العنف والإرهاب باسم الإسلام، حتى أصبحت فيها مفاهيم وأفكار من فئات منحرفة ومغرضة تجر وراءها أعدادًا من الشبان المضلل.
استطاع الكاتب، بعد بحث واستقصاء لثلاثة عقود، أن يقدم مشروعًا متكاملًا، للخروج من مرحلة المخاض إلى مرحلة الإيمان الحقيقي، والتحرك الإيجابي للعودة إلى القيم والمفاهيم الأساسية التي قد جاء بها القرآن لكل الناس في جميع العصور.
هذا المشروع المتكامل، الذي أُطلق عليه «رسالة السلام»، وتعاون معه فيه عدد من الشباب الواعد والشخصيات العامة والأكاديمية، لا يخاطب المسلمين في كل مكان فقط، بل يخاطب أيضًا المجتمع الغربي، ليزيل الصورة النمطية السلبية التي خلقها انتشار التطرف والإرهاب في تجمعات الشباب المضلل.
يتمثل هذا المشروع المتكامل في أربع خطوات رئيسية:
الأولى: تحديد مواطن الانحراف التي أدت إلى هذا المخاض المتأزم الذي يتمثل في الصراع بين الحقيقة، ممثلة في النص القرآني، والأسطورة التي طرحها المفسرون على مدى العصور، والتي تبث الفرقة والتصارع، والخروج عن المبادئ الأساسية للدين.
لقد أدت هذه الحالة إلى الفرقة والصراعات، ورسخت الظلم الاجتماعي، وفتحت الباب للتطرف والصراعات الدموية، حيث استغلت هذه الفرق المتنازعة عدم الوعي بالمبادئ الحقيقية للإسلام، كما أرساها القرآن الكريم، في صياغة تفسيرات خاطئة، لكي تحقق أهدافها السياسية، وتقضي على وحدة العالم الإسلامي وسلامه واستقراره.
وتمثل التدهور الذي جرتنا له هذه التفسيرات والأساطير في اتساع الفجوة بين السلوك اليومي والقيم الإسلامية الحقيقية، حتى أصبحت هذه السلوكيات مثارًا للتعجب، كما يتمثل التدهور في اكتساب شيوخ الدين مكانة اجتماعية وسلطة سياسية على الرغم من أن الإسلام لم يكن قط لاهوتيًا، ولم يسمح بوجود فئة من البشر تحتكر تفسير القرآن، وتقدم نفسها على أنهم حماة الدين ومفسروه.
لقد ارتبط هذا التدهور بسيطرة الخطاب الديني الذي أدى إلى تمزيق المسلمين فرقًا وشيعة، وتحوّل الدين إلى أركان شكلية وطقوس، وأصبحت الوسائل، وهي العبادات، هي الغايات، بينما هي وسائل لكي يبني الإنسان سلوكه وحياته على المفاهيم الصحيحة للإسلام.
لقد أفقد هذا الخطاب الديني، الذي بُني على أفكار موروثة معظمها خاطئ، الإسلام عدالته وإنسانيته، بل جاءت معه الفرقة مع الفرق المتناحرة بدعوات للقتل والتدمير.
وأصبح التعصب هو سمة الحراك الاجتماعي، وأصبحت الروايات والأقوال التي لا يمكن التأكد من صحتها ومصداقيتها مقدسة، بل أصبحت التأويلات هي المصدر، وليس المصدر الإلهي، وهو القرآن الكريم، بل وصل الأمر إلى اختلاق أحاديث نبوية مغلوطة، والادعاء بأنها تُطبق بعيدًا عن القرآن الكريم.
ويأتي البُعد الثاني في المشروع الفكري لـ«رسالة السلام»، كما يصوغها الكاتب والمفكر على الشرفاء، ليؤكد الخطاب الإلهي، فالقرآن الكريم هو رسالة وليس دعوة لاهوتية، فهو خطاب متجدد ومتفاعل مع واقع الحياة الإنسانية، ويدعو إلى تفعيل العقل لا تقديس الأفراد، وإلى استلهام التشريعات وفق المصالح الإنسانية من القرآن الكريم، واهتداءً بالمبادئ الأساسية فيه.
الخطاب الإلهي لا يعترف بأي امتيازات مبنية على العرق أو العقيدة، ولا وجود فيه لطبقة متميزة.
الخطاب الإلهي يأتي بثلاثة أركان للإسلام واضحة، كما يذكرها الكاتب في كتابه:
الركن الأول: العبادات، وهي الشهادة والإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج، والتفكر في القرآن والكون والمخلوقات.
الثاني: منظومة القيم والأخلاق، وهي بر الوالدين، والعلاقات الزوجية، وضوابط الميراث، والإنفاق في سبيل الله، وسلوك المسلم مثل الإحسان وأداء الأمانات، والتسامح والتراحم.
الثالث: المحرمات مثل الشرك بالله، وما حرمه الله من الطعام والخمر والكذب والنفاق والفساد بأشكاله.
ويمثل هذا تبيانًا للتكامل بين العبادات والقيم والسلوك، فالخطاب الإلهي يدعو إلى التسامح وإعمال العقل، ولا يضع البشر قضاةً على البشر، إنما الله وحده يحاسبنا جميعًا.
الخطاب الإلهي يحدد أن الجهاد في سبيل الله لا يعني استخدام العنف والإرهاب، ولكنه يعني أولا جهاد النفس، ثم بذل الجهد، لإعلاء كلمة الحق والسلام.
وقد قدم الكاتب دراسات متعددة عن كل هذه المحاور الثلاثة، واهتم بالقضايا الحياتية التي تهز المجتمع الإسلامي مثل الطلاق والأسرة، كما قدم دراسات عن التطور الاجتماعي في إطار الدين الصحيح.
ويأتي البعد الثالث عن أهمية إعمال العقل، فالتأمل مسئولية فردية وجماعية، وعلى الجميع أن يتبينوا من القرآن الكريم ما يهديهم إلى الحقيقة والسلوك الصواب.
ثم يأتي البعد الرابع في مشروع «رسالة السلام» ليقدم الإسلام في إطاره الصحيح، ليس فقط للمسلمين في شتى البقاع وكل الأعمار، ولكن أيضًا يخاطب الغرب والشرق وأبناء المسلمين في الغرب، حيث تكمن المشكلة في الصورة التي خلقها التطرف للإسلام في الغرب، والتي تنعكس على العالم الإسلامي ككل.
يمثل برنامج «رسالة السلام» الموجه للشرق والغرب تحركًا إيجابيًا نحو المجتمعات الغربية والشرقية، ولذلك صدرت هذه الكتب الرئيسية وتُرجمت إلى لغات عدة، ووضعت برامج، للتعامل مع العقلية الغربية في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، لتقديم الصورة الحقيقية والنقية للإسلام، ولاقت هذه الجهود اهتمامًا من المراكز العلمية والأكاديمية والتجمعات الشبابية.
هذا المشروع الفكري المتكامل، الذي طرحه الكاتب في عدة كتب، موجه للمسلمين وغير المسلمين، ويمثّل نقطة تحول بالغة الأهمية للعالم الإسلامي في وقت بالغ الحرج والصعوبة.