كل الطرق تفضى إلى مبدأ «مونرو عربي». اللحظة مواتية، والنظام الدولى القديم يتداعى، وهو مبدأ مهم لو كان قد تحقق ما كانت الكرة الأرضية شهدت هذا الكم من الحروب والإرهاب والفوضى والتدمير.
ولنلق نظرة سريعة على مبدأ مونرو هذا.
مر قرنان كاملان على رسالة الرئيس الأمريكى الخامس جيمس مونرو إلى الكونجرس فى الثانى من ديسمبر 1823، إذن هذا العام 2023 هو المتمم للقرنين الصاخبين.
كانت رسالة مونرو رسالة استقلال وانعزال عن الاستعمار الأوروبي، بإمبراطورياته التى لا تغيب عنها الشمس، وتلك التى تسمى ما وراء أعالى البحار، وكانت موجات الاستعمار الأوروبي، لا تبدأ من الأسبان والبرتغاليين والهولنديين، والفرنسيين، ولا تنتهى بالإنجليز.
رسالة مونرو تلك لا تزال تظهر بين الحين والآخر لدى شعوب الأمريكتين: الشمالية والجنوبية، دفاعا عن الوجود الحيوى لشعوب هاتين القارتين المرتبطتين، مصيرا ووجودا، بعيدا عن اعتبارهما مستعمرات وغنائم للأوروبيين، وأراضى فارغة، ومكتشفة من قبل بحارة مغامرين.
المعنى العميق لمبدأ مونرو هذا هو الدفاع عن نصف الكرة الغربي، ضد من؟ ضد الأوروبيين، ومع من؟ مع تقرير المصير للأمريكتين دولا وشعوبا.
وعقدت مؤتمرات، وأقيمت مؤسسات، ووقعت اتفاقيات حسن جوار، بين دول نصف الكرة الغربية خوفا من عودة “الشيطان الأوروبي”، وكان ترحيب شعوب أمريكا اللاتينية ظاهرا مع قليل من الحذر، وتأكد الحذر بسبب التدخلات الأمريكية الشمالية فى أكثر من دولة لاتينية، وضم بعض الأراضى إليها بالقوة المسلحة، وتركيب وخلع أنظمة، وهو أمر لا يزال مستمرا إلى الآن، برغم أن رسالة مونرو بدت وكأنها رسالة نبيلة فى الظاهر.
دون شك استند مبدأ مونرو إلى خطاب الرئيس الأمريكى الأول جورج واشنطن الذى دعا فيه إلى الانعزال والابتعاد عن الشئون العالمية، أى الشئون الأوروبية، بحروبها وصراعاتها العرقية والدينية، والتوسعية، والمعنى أن أمريكا الحالية بشقيها، منذ قرنين كانت تبحث عن الحرية، والاستقلال، والوحدة الطوعية مع شقيقاتها فى أمريكا اللاتينية برغم التنوع العرقى واللغوى والدينى بين شعوب القارتين.
ماذا لو كان مبدأ مونرو قد تحقق بالفعل؟
هل كنا عايشنا الحرب الأمريكية الأسبانية التى انتصر فيها الأسطول البحرى بقيادة ماهان على الأسطول الأسبانى العملاق، وهل كان يمكن أن تخرج أمريكا من عزلتها إلى العالم الواسع، وركوب أمواج محيطات وبحار العالم؟ أعتقد أن هذه الموقعة كسرت للأبد فكرة مونرو النبيلة، فقد خرجت أمريكيا عام 1898 مرة أولى وأخيرة إلى الأبد، ودائرة الحرب الروسية الأوكرانية تقع ضمن فكرة الخروج بلا عودة.
هل كان يمكن أن تقع الحربان العظميان: الأولى والثانية، وهل كان يمكن أن نعايش سلسلة حروب وغزوات مدمرة، لمقدرات الأمم والشعوب؟
أعتقد أن الإجابة ستكون: بلا.
مرت هذا العام ذكرى رسالة مونرو دون أن ينتبه لها “عمال” النخبة السياسية على مستوى العالم، فهم مشغولون بكسر الفكرة لا بتحقيقها.
تذكرت مونرو مع تصريحات الرئيس الأمريكى الخامس والأربعين، دونالد ترامب، المرشح إلى الآن لانتخابات 2024 الرئاسية، حين قال: إذا ما فزت بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، سوف أجعل أوروبا تدفع الأموال، وتدفع ثمن الذخائر والأسلحة التى أعطتها أمريكا لأوكرانيا لتواجه بها روسيا فى الحرب الدائرة هناك منذ 24 فبراير 2023، وقال نصا: بعد تسعة وعشرين شهرا أصبحت الترسانات فارغة، والأسهم مستنفدة، والخزانة فارغة، والصفوف تتقلص، وبلدنا مهان تماما، ...... وجو بايدن (يقصد الرئيس الأمريكى الحالي)، يجرنا نحو حرب عالمية ثالثة”.
كان ترامب قد صرح فى وقت سابق بأنه قادر على إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية خلال أيام، وأنه قادر على منع وقوع حرب عالمية ثالثة.
والمعنى أن ترامب يؤمن فى قرارة نفسه بمبدأ مونرو، حتى لو وصل الأمر به إلى العزلة، والابتعاد تماما عن مشكلات العالم القديم.
ولا شك أن له أتباعا بين الجمهور الأمريكي، ويتزايد الذين يؤمنون بعزلة أمريكا يوما بعد آخر، وتفكيك سياسة القرنين الماضيين منذ مونرو إلى الآن.
شخصيا أعتقد أن هذا الأمر سيحدث فى نهاية المطاف، وأن رقعة الشطرنج الجديدة ستكون مقسمة بين قوى متماسكة، قادرة على إنشاء توازن سياسى لم يحدث طوال هذين القرنين.
فهل يمكن لنا كدول عربية، وكإقليم متجانس، لغة ودينا وثقافة، واقتصادا، أن تصبح لديه رسالة شبيهة برسالة مونرو، تدعو إلى تكوين رابطة إقليمية حقيقية، لها مقوماتها السياسية المتماسكة بعيدا عن التجاذبات الراهنة فى نظام دولى يتداعى؟