القوة والأمانة معياران أساسيان في اختيار وتعيين الأكفاء في الوظائف، وقاعدة "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين" يجب أن تكون الأساس في إستقطاب وإختيار الكفاءات البشرية في مؤسساتنا لضمان توافق الشخص مع وظيفته وأيضا مع منظمته.
نعيش اليوم مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة في أبواب المعاملات، والعلاقات بين الناس، والتي يجب ان نتسخدمها بكثرة في علم إدارة الموارد البشرية وهي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [سورة القصص: أية 26[. قد تفسر مقالة اليوم اسباب تراجع كثير من مؤسساتنا بسبب غياب سياسة الإستقطاب والإختيار النابعة من تجنيد من هم يتمتعون بالقوة والأمانة ويستخدمونهما بالعلم والحكمة. وهذا يلفت النظر إلي حرص المولى عز وجل أن يعلمنا هاتين الصفتين علي إعتبار أنهما عماد النجاح لأي عمل سواء علي مستوي الفرد أو المؤسسة أو علي مستوى المجتمع.
وللتذكير أولا فإن هذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين ـ في سورة القصص ـ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر ـ من غير أن ينتظر سؤالهما ـ بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما ـ وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال ـ: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). فقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} تعليل لطلبها، فالقوة في العمل، والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب.
السؤال الأن ما هي صور القوة وصور الأمانة التي يجب أن نبحث عنها فمن نختاره للقيام بالعمل والإدارة داخل مؤسساتنا بمختف أنواعها وأحجامها ومواقعها وما هو سر التلازم بين القوة والأمانة؟
إن هذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل أن هذا من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من الشرائع. وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر.
إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازماً ظاهراً وبيّناً بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع، ومن ذلك:
ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ جبريل؛ ـ في قوله ـ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 19 - 21] فانظر كم وصفاً وصف الله به هذا الرسول الملكي الكريم؟ ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال.
والموضع الثاني من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة، فهو قول يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55[
"أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه".
أما الموضع الثالث من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة في القرآن الكريم فهو:
ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ:
(قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل: 38، 39[.
صور القوة التي تستنبط من قاعدة إن خير من أستأجرت القوى الأمين:
القوة هي القدرة على التأثير على الآخرين الذين هم في حالة تبعية. فما هى صورها؟
تشمل صور القوة ما يلي:-
(1) قوة و صدق الإيمان والمعتقد: وهي التي تجعل الشخص يستند في أحكامه وتصرفات للتعاليم السماوية والتي تجعها منضبط أخلاقيا فلا يظلم ولا يسرق....الخ.
(2) قوة الثبات على الخطى: وهي التي تجعل الشخص ينأى بنفسه عن الباطل ويرفض مسايرة أهله، وبالمقابل يقف مع الحق ويعين الناس عليه، فهو في حياته على بصيرة من أمره.
(3) قوة المصارعة في الحق: وهي الإصرار علي الحق وترك المجاملة فيه والمستند إلى قوة الاستمساك بالحق والرضا به.
(4) قوة التحكّم في الإرادة: وضبط النفس، وتلك الصفة تدل على كمال الخصال، وعلوّ السجايا. وهي التي تساعد الشخص في مواجهة التحديات.
(5) القوة البدنية: وهي التي تعين الشخص علي القيام بالجهد المطلوب للعمل.
(6) قوة المعرفة: وهى التي تنقل الشخص إلي الحكمة والقرارات والتصرفات المبنية علي الحقائق وليس التكهنات.
(7) قوة الشخصية: وهي تمتع الشخص بمجموعة من السمات الفردية التي تميزه عن غيره وتضبط سلوكه.
(8) قوة المهارة: وهي التي تمكن الشخص من إتقان العمل وتحسين الأداء.
(9) قوة ضبط النفس: وهي التي تجعل الشخص رشيد وغير انفعالي.
(10) قوة الحزم أو الصرامة: وهي التي تجعل الشخص صاحب قرار بعيدا عن التردد.
(11) قوة القبول أو الحضور القوى: وهي التي تجعل الشخص مقبولا وبالتالي يستطيع تسير مرؤوسه وإقناعهم.
(12) قوة المنصب: وهى السلطة المستمدة من منصب الشخص أو وظيفته في منظمة.
(13) القوة المكافئة: وهي القوة المستمدة من القدرة على تقديم نتائج إيجابية ومنع النتائج السلبية.
(14) قوة الثواب والعقاب: وهي السلطة المستمدة من استخدام العقاب والتهديد.
(15) قوة المرجعية: القوة المستمدة من كون الشخص محل إعجاب من قبل الآخرين. وهو ينبع من تحديد الهوية مع حامل السلطة.
(16) قوة الخبرة: وهى القوة المستمدة من وجود معلومات خاصة أو خبرة تقدرها المنظمة.
(17) قوة الإقناع: وهي مستمدة من ثقة الشخص بنفسه وإستناده للعلم والحقائق في مخاطبة الناس.
(18) قوة الجاذبية: وهي تنبع من تمتع الشخص بحب الأخرين وإنصاتهم له.
(19) قوة التأثير: وهي تعبر عن إذعان الأخرين له ولتنفيذ تعليماته ثقة فيه.
(20) قوة الإنجاز: وهي المثابرة والإصرار علي تحقيق الهدف.
(21) قوة الإيجابية: وهى التحلى بالقدرة الجيّدة على التكيّف ومواكبة التغيير، وإدارة المواقف الصعبة بطريقة إيجابيّة ومميّزة.
(22) قوة التعاطف والرحمة: يتمتعون بالطيبة والعطف والرحمة التي تدفعهم لمدّ يد العون لغيرهم، وعدم التخاذل في سبيل مُساعدتهم بلا تردد من باب الاحترام والعطف، وليس من باب الالتزام والشعور بالخجل أو الإكراه.
ماهي الأمانة؟ وما هي صورها؟ ولماذا هى شرط جوهرى في استقطاب الأكفاء؟
الأمانة خُلقٌ كريمٌ من الأخلالق التي حثّ عليها الإسلام وأمر بها عباده المؤمنين، فقد جاء في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، حيث وصف الله المؤمنين حين وصفهم بالفلاح والرشاد بأنّهم يحفظون أماناتهم ويوفون بعهدهم بها، فالأمانة تشمل كلّ ما يدخل في حياة المسلم من أمر دينه ودُنياه، فهي أداء الحقوق لأصحابها، والمحافظة عليها، والمسلم الأمين يؤدّي كلّ حقٍّ إلى صاحبه، سواء كان هذا الحقّ متعلّقاً بالعباد أو بالله أو بنفسه، فيؤدّي حقوق الله في العبادات، ويؤدي كل حق لصاحبه من العباد، ويحفظ جوارحه عن الوقوع في الحرام فيكون أميناً على نفسه، والأمانة خُلق عظيم من أخلاق الإسلام، وأصلٌ من أصول بنائه، حملها الإنسان بينما أبت السماوات والأرض أن يحملنها، وقد أمر الله عباده بأداء الأمانة، والأمانة صفةٌ من صفات أهل الرسالات، حيث كان كلّ رسولٍ يقول لقومه: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، وما وُصف رسولنا الكريم إلّا بالصادق الأمين، حيث لازمه ذلك الوصف قبل الإسلام وبعده، وفي أشدّ أوقات عداوة قومه له، وقد جعل رسول الله -صلّى الله عليه عليه وسلّم- الأمانة علامةً على إيمان المرء، كما روى أنس بن مالك عن رسول الله، أنّه قال: (لا إيمانَ لمن لا أمانةَ لهُ، ولا دينَ لمنْ لا عهدَ لهُ)، وجعل رسول الله نزعها من بين الناس علامةً على فساد الزمان واقتراب الساعة.
ماهى صور الأمانة المشار إليها في قول الله تعالي "إن خير من أستأجرت القوى الأمين؟
صور الأمانة وأنواعها للأمانة أنواعٌ وصورٌ ومجالاتٌ كثيرةٌ تندرج تحتها وتدخل من ضمنها، تتنوّع في أصولها ما بين أماناتٍ متعلّقةٍ بحقوق الله، وأماناتٍ متعلّقةٍ بحقوق العباد، ومن هذه الأنواع:
(1) الأمانة فيما افترضه الله على عباده من العبادات الّتي افترضها عليهم؛ فقد ائتمن الله تعالى عباده بهذه العبادات.
(2) الأمانة في الأموال؛ فلا يتعدّى الإنسان عمّا ليس له من حقٍّ، ويؤدّي ما عنده للناس من حقوقٍ، ويدخل في ذلك؛ الوصايا والدّيون والمواريث والبيوع والولايات الكبرى والصغرى، وما أُعطي للإنسان بصفة الأمانة عنده على سبيل حفظها لأصحابها.
(3) الأمانة في الأعراض؛ فيعفّ الإنسان نفسه ولسانه عن كلّ ما ليس من حقّه، فيتجنّب القذف والغيبة. الأمانة في الأجسام والأرواح؛ فيكفّ اليد والنفس عن التعرّض لها بسوء، فلا يأذي نفسه بجرحٍ أو أذى.
(4) الأمانة في المعارف والعلوم؛ فيؤدّي الإنسان ما عنده من العلوم كما هي، دون تغييرٍ، أو تحريفٍ، أو تبديلٍ، مع نسبة الأقوال إلى قائليها، وعدم التعرّض لما للغير ونسبته لنفسه.
(5) الأمانة في الولاية أو الوظيفة؛ فيؤدّي الحقوق إلى أصحابها، ويولّي الأعمال إلى الأكفياء في أدائها، ويحفظ ما للناس من أرواحهم وأجسادهم وأموالهم ويحرص على الدين الذي ارتضاه الله لعباده من أن يمسّه أحدٌ بسوءٍ، ويحافظ على أسرار الدولة من أن تصل إلى الأعداء.
(6) الأمانة في الشهادة؛ فيؤدّيها كما يعلمها دون أيّ تحريفٍ أو زيادةٍ أو نقصانٍ.
(7) الأمانة في القضاء؛ فيصدر القاضي أحكامه وفق الأحكام العدليّة الموكّل بها.
(8) الأمانة في الكتابة؛ فيحرص على أن يكتب وفق ما يُملى عليه، ووفق الأصل الذي تكتب به، فلا يزيد ولا ينقص ولا يحرّف أو يبدّل، وإن كان لا يكتب على وفق الإملاء الحرفيّ فيكتبها بالمضمون خاليةً من الكذب أو التلاعب فيها.
(9) الأمانة في الأسرار التي يُستأمن على حفظها، ومن ذلك ما يكون بين الأصحاب من الأمور التي يستأمن فيها الصّاحب صاحبه، سواء أوصاه بذلك أو عُلم من الحال أنّه لا يريد منه أن يخرج الكلام عنهما، ويحرم عليه ذلك لو أخرجه إلى أقرب الناس إليه.
(10) الأمانة في الرسالات؛ فيوصلها إلى أهلها دون إحداث أيّ تغيير فيها، سواء كانت لفظيّةً أو كتابيّةً أو عمليّةً.
(11) الأمانة في السمع والبصر وسائر الحواس؛ فيحرص على أن يكفّ حواسه عن الوقوع في الحرام، وأن يؤدّي بها حقوق الله تعالى وحقوق عباده، فيستخدمها فيما أمر الله به ورغّب عليه، ويعلم أنّ هذه الحواس أمانةٌ عنده وليست ملكه، فلا يجزع إن امتُحن بفقدان شيءٍ منها ويعلم أنّ الله أحقّ بها منه.
(12) الأمانة في النصح والمشورة؛ فيعلم أن مَن جاءه ليستشيره ويأخذ برأيه فقد وثق به، فينصحه على وفق ما يراه صحيحاً، ويقدّم له الرأي والمشورة، ولا يخونه بأن يشير عليه بغير الرأي الصحيح.
الخلاصة:
فلنتخيل سويا أن القائمين على عملية التوظيف في مؤسسات الأعمال بمختلف أنواعها حرصوا علي التدقيق فيمن يختارونه للعمل والقيادة بأن يتسم بالقوة والأمانة ومعهم الحكمة والعلم، حتما سنجد كثيرًا من الإصلاح والنتائج الطيبة في مؤسساتنا وسيختفي كثير من المظاهر السلبية داخل مؤسساتنا. قرار إختيار الشخص للعمل عبارة عن مقابلة احتياجات الوظيفة مع صفات المتقدم للوظيفة فإذا تمتع الشخص بالمهارة والمعرفة والقدرة على أداء العمل دون أن يتوافر فيه صفتا القوة والأمانة فسوف نضمن الحد الأدنى من الأداء، ولكن لا نضمن النجاح والاستدامة. فالقوة إن توافرت في الشخص تعنى أنه يمتلك كل مقومات النجاح في عمله أما الأمانة فستكون بمثابة المتحكم الرئيسى في استخدام هذه القوة دون انحراف. وبناء عليه نقترح على مؤسساتنا عمل برامج للاستقطاب تستند للقاعدة الربانية التي كان فيها سيدنا موسى القوة والمثل.
فالمقياس في اختيار من يتولى الإدارة هو أن يتمتع بصفتين أساسيتين القوة والأمانة. والقوة ليست مجرد القوة العضلية بل القوة في المعرفة وفي التخصص وفي أداء العمل علي أكمل وجه، سواء كان ذلك العمل جسديا أو ذهنيا أو مكتبيا أو تجاريا، والأمانة هي التي تحصن القوة بالخير، وتوجهها إلى صالح العمل، وإلا كانت القوة في الشر وفي الخيانة والفساد والخداع، ولذلك فإن من السهل على بعض الأقوياء ومراكز القوى الاقتصادية حين ينسون الأمانة أن يتحولوا إلى مراكز شر تعصف بالمجتمع وتدمره وتدمر نفسها.
الأمانة هي الإحساس بالمسئولية والضمير اليقظ، كما أن القوة هي كل أنواع النبوغ والتخصص والكفاءات بمختلف أنواعها. والإدارة الحديثة تبحث عن الكفاءات الأمينة، وتلك الكفاءات الصالحة هي عماد أي مشروع تجاري ناجح.
وختاما: فالدرس المستفاد الأخير من هذه القصة الجميلة هو أن تكون أمينا تفعل الخير لوجه الله جل وعلا دون ان تسأل الناس جزاءً ولا شكورًا. حين تفعل الخير ابتغاء وجه الرحمن جل وعلا فإنه جل وعلا كما قال فى كتابه الكريم لا يضيع أجر من أحسن عملا . ويعجل لك الأجر فى الدنيا ولا يحرمك من أجر الآخرة، لو تمسكت بالحق والخير إلى نهاية العمر.
* عميد كلية التجارة جامعة القاهرة