يذكر العلامة محمود شاكر (1909-1997)، في مقدمة كتابه (القوس العذراء)، أن الشماخ بن ضرار الغطفاني، أحد فحول شعراء العرب، أنشد الوليد بن عبد الملك شيئًا من شعره في وصف الحُمرُ الوحشية، فما أن انتهى حتى قال عنه (ما أوصفه لها!! إني لأحسب أحد أبويه كان حِمارًا !)، ذلك أن كان وصف الشماخ يتخطى الظاهر من الشكل وينفذ إلى ما في النفوس فيأتي شعره فريدًا، وكذلك اشتهر امرؤ القيس بأنه أوصف الشعراء للخيل، ومن منا لا يذكر (مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا)، من هنا تخطى شعر القدماء الرغبة المحضة في ذكر تراث الأقدمين، إلى بيان قدرة بعض النصوص على مقاومة الزمن ومنافسة خلود آثارهم المعمارية.
كذلك حازت الروايات الأكثر رهافة وعمقًا في رصد خفايا النفس البشرية مكانة أدبية عالية، وسكن أثرها قلوب قرائها، وارتقت مكانتها في عقولهم، وطاب مذاقها في أفواههم.
يطالعك السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ بهيئته الجسيمة وتناقضه ما بين حزم ظاهر جعل كلمته قانون وإشارته أمر، وإفراط باطن حتى لتظنه لا يعرف من الجد شيئًا. حرفية أتقن بها محفوظ رسم شخصيات الرواية؛ أمينة، وياسين، وفهمي، وعائشة.
وعندما قرأنا رائعة الأمريكي أرنست هيمنجواي (العجوز والبحر)، كاد رذاذ موج البحر يبلل وجوهنا، وتوشك ضربات أسماك القرش تدمر المركب ونموت غرقى، وتلفحنا الشمس الحارقة بلهيب لا يقل عما نعانيه الآن من هجير.
ولعلي أزعم أن الأدب الروسي، يأتي في صدارة القدرة على التجسيد والتعبير، فما تقرأه من تفاصيل خفايا النفوس البشرية وتوتراتها وهواجسها في أعمال ليو تولستوي، وأنطون تشيخوف، وفيودور ديستوفيسكي، ونيقولاي جوجول، يذهلك بتلك القدرة الفذة على الوصف، ويرسخ الشعور أن كل منهم كابد مآسي ما كتب، وإن صاحبت بعض منها طرافة.
لا أقرأ نيقولاي جوجول إلا وأحسبه كان يعاني عقدة اقتناء معطف ثمين في بلد يحيله زمهرير الشتاء إلى كتلة ثلجية، فما من قصة قرأتها له، إلا وجعل بطلها أو أحد أشخاصها الرئيسيين يسهب في وصف معطفه البالي وحلمه بمعطف تصُنع ياقته من فرو دب قطبي، أو حيوان القُندس، أو القطط البرية، كذلك الذي يرتديه أبناء الطبقة الأرستقراطية، حتى أنه –جوجول- كتب قصة بعنوان المعطف، لم يكن لبطلها–أكاكي أكاكيفيتش- من هدف في الحياة سوى شراء معطف قيم، وبالفعل أقدم على شراء واحد يشبه معطف السيد المدير، أو صاحب السعادة، كما تعود وباقي الموظفين الإشارة إليه في المصلحة.
رجل متعجرف يرتدي معطفًا فاخرًا ويعامل موظفوه بلهجة آمرة ساخطة، رغم أنه كان قبل ترقيته إلى هذه الوظيفة الكبيرة رجلاً بسيطًا، طيب المعشر، لكن ترقيته أفقدته صوابه.
صار على من يريد لقاء صاحب السعادة قضاء ساعات طويلة من الانتظار دون سبب، وعندما يؤذن لهم بالدخول يتطلع إليهم بعينين دربهما طويلاً على بث الرعب مع لسان أتقن لعبة الصمت، فيقع الزائر في حرج بالغ لا يجد معه كلمات يحشو بها الوقت البارد. كانت الترقية لعنة على أكاكيفيتش وزملائه الموظفين.
كذلك كان هتلر رسامًا أنتج وباع مئات اللوحات وعندما امتهن السياسة استبدل الفرشاة بالمسدس وقتل العالم، وانخرط موسوليني بعد عمله صحفيًا في السياسة واستبدل القلم بالبندقية وخاض مع صديقه الفوهرر الحرب العالمية الثانية، ويرى مؤيدو السيد ماوتسي تونج أنه أسس الصين العظيمة، وصنفه معارضوه في خانة المستبد الأعظم، ودق العقيد القذافي أوتاد خيمته في أشهر ميادين العالم وراح ينشر عصير كتابه الأخضر.
كانوا مواطنين بسطاءً وعندما تقلدوا مناصبهم، وقعوا في فخ السُلطة.