حين نقول إن السودان الشقيق فضلا عن رباط الدم واللغة والتاريخ والقُربى، هو العمق الإستراتيجي لمصر من حيث الموقع الحيوي بالقارة الإفريقية، ومن ثم الارتباط الوثيق بقضية الأمن القومي، فإن هذا القول ليس ضربًا من المجاز أو المبالغة، وإنما هو حقيقة دامغة وتاريخية أوجبت كل تلك الجهود المبذولة من الدولة المصرية لوقف آلة الاقتتال والشر المستطير الدائرة في هذا القُطر الشقيق، والتي حصدت أرواحًا بريئة بعشرات المئات في فترة زمنية قليلة وأتت على الأخضر واليابس ودمرت البنى التحتية وأتلفت كل وسائل الاتصال وانقطعت المياه والكهرباء، حتى أصبح السودان الذي كان يومًا ما قريبًا "سلة غذاء العالم"، منطقة موبوءة بحرب تهرب منها الجاليات ويهرب أبناؤها اتقاء لويلات هذا الصراع، وكان السؤال المؤرق دائمًا: كيف يوجه سلاح من الداخل إلى صدور الأبناء والإخوة؟ ومتى يتوقف هذا النزيف للأرواح والمقدرات؟ وكيف نتجنب مصيرًا سوداويًا لا نعرف مآله؟ فأي متابع أو غير ذي صلة بالأمر يمكنه استكشاف هذا اليقين الذي يجعل مصر أول المهتمين والمعنيين بأمن واستقرار السودان واستعادة مساراته الطبيعية، وهو الوطن الذي تربطه بنا علاقات تاريخية وإستراتيجية.
ولأن مصر دائمًا ما تحمل على عاتقها ـ وهو قدرها التاريخي ـ هموم القارة والمنطقة وتكون دائمًا اللاعب الأبرز في رياض استتباب الأمن ومساعي السلام حتى في العالم كله، باحثة عن مواقف إقليمية وقارية ناجعة وفارقة للأزمات الملحة دون انتظار أو حتى قبول تدخلات دولية لها أهدافها ومصلحتها والتي ربما تكون من البداية أحد فتائل الاشتعال لتنعكس تداعيات أهدافها تلك على دولنا، فمن هنا احتضنت القاهرة الخميس الماضي ـ كدأبها في الريادة بجميع المواقف والأزمات التي تتعلق بقضايا الأمتين العربية والإفريقية وبكل جدية وإخلاص ـ قمة دول جوار السودان، في محاولة جادة واضحة وملهمة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، لتكون هذه القمة أحدث المساعي الدولية الرامية لمنع اندلاع حرب أهلية وتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان الشقيق والعريق، وكان لابد من التوجه لوضع حلول عملية قابلة للتنفيذ في هذا الصدد، وكان لابد أن تكون هناك مشاركات جادة من الأشقاء ذوي الجيرة والمصير المشترك والتي قطعًا لا يروقها هذا الوضع المأساوي من حيث عدم قبوله بشكل عام، وبشكل خاص من حيث التأثر والتوتر الذي سيطال المجاورين والقلاقل التي قد تعيق الكثير من المسارات بل وقد تؤدي إلى عواقب وخيمة أقلها مصير التقسيم والذي لا يريده بالطبع أبناء السودان ولا أشقاؤهم في مصر ودول الجيران، ولتوضع خطة طريق متوازية مع المسارات الإقليمية والدولية، لحل هذه الأزمة وحقن دماء الشعب السودانى، وتجنيبه الآثار السلبية.
ومن هنا جاءت دعوة الرئيس السيسى المخلصة لهذه القمة التي ضمت حضورًا فاعلا بمشاركة رؤساء دول وحكومات تشاد، وإريتريا، وليبيا وإثيوبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وكذلك أمين عام جامعة الدول العربية ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقى، لتكون استكمالًا واضحًا وخطوة رئيسة في الطريق الذي توازت خطاه مع مسارات جهود إقليمية بُذلت على مدار شهور، وتأكيدًا لتوحيد الجهود والرؤى والمواقف تجاه هذه الأزمة، والانتباه إلى خطورة تداعيات الصراع، مع تأكيد الاحترام الكامل لسيادة السودان وسلامة أراضيه وعدم التدخل في شئونه واعتبار النزاع الحالي شأنًا داخليًا، لهذا الوطن الذي يمر بلحظة فارقة ـ كما أكد الرئيس في كلمته الملهمة الجادة ـ فمصر استقبلت مئات الآلاف من النازحين الذين أُضيفوا لخمسة ملايين من السودانيين، وسوف تظل تبذل كل الجهد لوقف نزيف الدم وتحقيق تطلعات شعب السودان الطيب بالعيش في وطنه بأمن وحرية وسلام وعدالة الدولة الوطنية في مسار سياسي جديد وبعيدا عن أي صراع.