ارتسمت أمارات وعلامات الاستغراب على وجوه الكثيرين، فور الإعلان عن زيارة وصفتها وسائل الإعلام العالمية بالمفاجئة والمباغتة لرئيس كوريا الجنوبية "يون سوك يول"، للعاصمة الأوكرانية كييف السبت الماضى، وزادت جرعة الدهشة في ضوء ما تمخض عنها من تعهدات والتزامات أعلنها الزائر رفيع المستوى بتقديم مساعدات إنسانية بنحو 150 مليون دولار، وتزويد الأوكرانيين بأسلحة غير فتاكة ـ كوريا الجنوبية تاسع أكبر دولة مصدرة للسلاح بالعالم-.
ومالت غالبية آراء المعلقين والمحللين ناحية التركيز على أن الرئيس الكوري الجنوبي ذهب لأوكرانيا تحت ضغط وإلحاح الحليف الأمريكي والقوى الغربية التي لم يعد في مقدورها تلبية الاحتياجات المتزايدة لكييف من الأسلحة والذخائر، مما أدى لخلو ترساناتها منها، وتحتاج لدعم فورى وعاجل من الترسانة العسكرية لسول، فضلا عن إظهار صلابة المعسكر المناهض لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وأنه لن يتخلى عنها وسيواصل مؤازرتها حتى النهاية، مهما كانت المعوقات والحواجز.
فعلا لا يمكن إنكار أن عامل الضغط كان من العوامل الكامنة خلف إتمام الزيارة، لكنه لم يكن هو السبب والدافع الرئيس والجوهرى، وإن بحثنا عنه سنعثر عليه في ثنايا وطيات عبارة لافتة وردت على لسان "سوك يول" ضمن البيان المشترك، هي: "تطرقت مناقشاتي مع نظيري الأوكراني زيلنيسكي إلى سبل التعاون لكتابة تاريخ جديد للأمل".
هذه العبارة الغامضة إلى حد ما في ظاهرها تحمل مفتاح اللغز، وتنير الطريق للساعين إلى فهم الأبعاد والخلفيات المؤثرة والحاكمة لتصرفات ومواقف سول حيال الحرب الروسية الأوكرانية، ولها ثلاثة أضلاع وثيقة الصلة ببعضها البعض.
الضلع الأول: أن الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية لا يزال يشعر بأن في رقبته دينًا للغرب وللولايات المتحدة عليه الوفاء به، وهو مساندتهما له إبان الحرب الكورية قبل نحو ٧٠ عامًا في مواجهة النظام الشيوعي الحاكم بالشطر الشمالي، وهو ما ساعده لاحقًا على الشفاء من جروح وندوب هذه الحرب المدمرة بين أشقاء الوطن الواحد، وأن تبدأ مسيرة تطورها وتقدمها لآفاق أرحب، إلى أن أضحت ضمن أكبر عشرة اقتصادات مهيمنة على عالمنا المعاصر.
وترى أن الوضع الحالي في أوكرانيا يماثل تقريبًا ما كان عليه وضعها البائس والحرج قبل سبعة عقود، وأنها وجدت مَن يمسك بيدها لحظة ضعفها، ويحفظ توازنها وتماسكها، ومن ثم فإن واجبها الإنساني والأخلاقي يحتم عليها، بل يلزمها بأن تمد يدها لكييف، حتى تظل قوية وصامدة، وانعكس ذلك الاعتقاد في قول يول: "تذكرني أوكرانيا الآن بكوريا الجنوبية في الماضى، مشيدًا بالمساعدات الدولية التي سمحت لبلاده بتحقيق انتصار ساحق على كوريا الشمالية".
وعلى قدر اتساع ما يفرق ساسة وقيادات كوريا الجنوبية من اختلافات وصراعات لا تخمد بشأن إدارة ملفات السياسات الداخلية الشائكة، فإنهم يتفقون ويجمعون على أمر واحد لا يتبدل مع تغير الرؤساء، هو أن استمرار ازدهار ونماء بلادهم مشروط بالإبقاء على التحالف العسكري والسياسي والاقتصادي والتكنولوجي الممتد مع واشنطن، وغير مسموح بالتفريط فيه، بل يجب تعزيزه وتقوية أواصره.
الضلع الثاني: أن كوريا الجنوبية مؤمنة إيمانًا راسخًا ولا يتطرق إليه ذرة شك واحدة بالمفاهيم والمبادئ الغربية، حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وأنها من الحاملين مشاعلها والمدافعين عنها حتى الرمق الأخير، وأن المعركة الحقيقية في أوكرانيا تدور بين الحرية وما يحاول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فرضه بالإجبار على الأوكرانيين الذين قاوموه وتشبثوا بخيارهم الديمقراطي الذي لن يحيدوا عنه، أو يفرطوا فيه، ودفعوا حياتهم ثمنًا له.
وكرر يول في تصريحاته مرارًا التزام سول بالانضمام لأنشطة أمريكا والديمقراطيات الليبرالية الأخرى في الجهود الدولية للدفاع عن حرية أوكرانيا، فمن وجهة نظره أن القضية الواجب الدفاع عن حصونها الآمنة، هي الحرية وأخواتها.
الضلع الثالث والأخير: أن كوريا الجنوبية وعبر إستراتيجيتها الأمنية الجديدة المعلنة في السابع من يونيو الماضى حددت بجلاء الهدف الذي تسعى لإنجازه، متمثلا في أن تكون "دولة محورية عالمية من أجل الحرية والسلام والازدهار"، ولن يتسنى لها تحقيق غايتها دون الانخراط والتفاعل مع الأزمات الدولية الناشبة، واحتراق أصابعها بنيرانها المتأججة، ومنها الأزمة الأوكرانية.
ومن بين البنود المهمة في الإستراتيجية الكورية الجنوبية تدعيم التعاون متعدد الأطراف، والعلاقات الأمريكية الكورية، وإدانة العملية الروسية الشاملة في أوكرانيا، ودعم أوكرانيا، وفرض عقوبات على موسكو، بسبب مهاجمتها أوكرانيا، علاوة على توثيق العلاقة على الصعيد الأمني والاقتصادي مع البلدان الأوروبية، وهو ما يجعلها تتبنى وتنخرط في المسار الغربى عند التعاطي مع الأزمة الأوكرانية.
وتضع سول ضمن حساباتها المستقبلية، طالت أم قصرت، أنه سيأتي الوقت الذي ستصمت فيه آلة الحرب الروسية الأوكرانية لينطلق قطار إعادة إعمار ما خربته في المدن الأوكرانية، ويستغرق إصلاحه ومحو آثاره سنوات طويلة، وأنه سيكون لها حصتها في عقود إعادة الإعمار، وستوفر لشركاتها أرباحًا بمليارات الدولارات، وسترد الجميل بمشاركتها في هذه العملية الشاقة، مثلما وقف لجوارها الأمريكيون والأوروبيون ومكنوها من استعادة عافيتها والنهوض على قدمين ثابتتين، لتصبح دولة يشار إليها بالبنان كقوة عالمية محورية لها وزنها الفاعل والمؤثر.