الثانوية العامة.. نجاح أم نجاة؟!

15-7-2023 | 08:04


 
كما اعتاد أولياء الأمور استقبال الثانوية العامة بما يليق بها، كسنة مصيرية لأبنائهم، بالقلق والترقب.

الأمور هذا العام أهدأ كثيرًا مما سبق فى السنوات القليلة السابقة، لم تعد حالات الغش الجماعى شائعة كما كان فى السابق، ولا حالات التخبط فى الأداء مع انقطاع الإنترنت أثناء الامتحان، ولا الشكوى العارمة بصعوبة الأسئلة فى كافة الامتحانات بسبب التحول لنظام مختلف لم يعتده الطلاب.. كل هذا تم امتصاصه هذا العام؛ ما يشير إلى أن أخطاء تم تداركها إلى حد كبير.. ولكن..

 ولكن لماذا نظل ندور فى دوامة أخطاء الأداء المعتادة؟! تلك الدوامة التى تبدأ بفكرة ألمعية تخطر على ذهن وزير تعليم، ثم يكتشف الناس، أو تكتشف الوزارة مدى الخطأ الذي ارتكبوه بالتطوير الذي أحدثوه دون دراسة كافية، فيأتى وزير آخر يعود بنا إلى نقطة الصفر من جديد لنبدأ أسئلة وجودية لا تنتهى عن مستقبل التعليم فى ظل تخبط دائم لا يبدو له آخر.

 إننى لا أتحدث عن رأى خاص يأتى عفو الخاطر، وإنما تابعت آراء الناس حول ما حدث من حذف لبعض المناهج الخاصة بالمرحلة الابتدائية، وكان المتوقع أن يقابل هذا الفعل ارتياح وترحيب من أولياء الأمور، لكن ردود الأفعال جاءت خلاف التوقعات.. فلماذا حدث هذا؟!!

لماذا لم يفرحوا بالتعديل؟

 الغالبية العظمى من أولياء الأمور انصبت شكاواهم على مناهج المرحلة الرابعة الابتدائية وما بعدها.. تلك المناهج التى أقر بعض المعلمين والمعلمات أنها صعبة حتى على هيئة التدريس نفسها! وأن الدور الذى كان يحاول أولياء الأمور فى السابق لعبه بتقليل الاحتياج للدروس الخصوصية من خلال مساعدة أبنائهم فى استذكار الدروس، حتى هذا الدور التقليدى لم يعد ممكنًا فى ظل غموض وصعوبة وكثافة المناهج لمرحلة المفترض فيها أنها مجرد تمهيد وتأسيس.. فنحن لسنا بصدد إعداد تلميذ الابتدائى لجامعات هارفارد وأوكسفورد مثلًا!
 
العام القادم لن يكون كما سبق.. المناهج تم تخفيفها وحذف أجزاء منها كما أعلنت الوزارة .. ورغم أن الخبر جيد ويصب فى مصلحة التلاميذ ويخفف العبء عن أولياء الأمور، لكن الخبر لم يقابَل بالترحاب لأسباب مختلفة.. أهمها أن التشويه الذى حدث فى المناهج بات كالعاهة المستديمة، لا يمكن محوه وإنما فقط تقليل أضراره. 


لهذا كان رأى أولياء الأمور أن وضع المنهج ثم حذف أجزاء منه يبدو كأنه مسألة تجريبية لا مسألة مدروسة مستقرة، وأن التلاميذ فى هذه الحالة يبدون كفئران تجارب فى معامل الوزارة الرشيدة!

غياب الأولويات 
 
ما حدث خلال السنوات السابقة أن الوزارة اختارت لنفسها منهج الهروب للأمام، فاختارت التطوير بدلًا من إصلاح العيوب الضخمة والعميقة، والتى يحتاج إصلاحها إلى أموال طائلة وجهود لا تتوقف، فبدا أن أولوية وزارة التربية والتعليم وقتذاك الاتجاه لتطوير المناهج بشكل جذرى ممتد من بداية مراحل التعليم الأساسي، فى نفس الوقت الذى يتم إدخال التابلت كوسيلة تعليمية أساسية لدى طلاب المرحلة الثانوية لغلق مشكلة المناهج من طرفيها! لكن الواقع المفجع فاجأهم باكتشافات مربكة.. فلا مناهج المرحلة الابتدائية الجديدة أصلحت شيئًا، بل أفسدت فى طريقها الكثير.. ولا تحويل مناهج الثانوى من التلقين والحفظ إلى التحليل والفهم أدى إلى نتائج إيجابية بل سلبية للغاية، كما تفشت ظواهر قيل إن النظم الجديدة تحاربها كالدروس الخصوصية والغش الجماعي، إذ باتت الدروس الخصوصية كالإدمان لا يمكن التخلص منه، وبات الغش ظاهرة قاصرة على القادرين عليه من ذوى الحظوة والنفوذ!

 الحقيقة أن منهج وزارة التعليم خلال السنوات السابقة كلها كان مبنيًا على فلسفة عقيمة مآلها الحتمى هو الفشل الذريع؛ إذ كيف يمكن تخيل إحداث تطوير وقفزة تقنية فى التعليم على أسس مهترئة آيلة للسقوط؟ وكيف يمكن تصور إحداث تغيير جوهرى فى منظومة التعليم بينما مشاكلها المزمنة لا زالت تنخر فى جسدها المنهك؟! إن عيوب ومشكلات التعليم معروفة ومحفوظة ويستطيع أى ولى أمر أن يسردها لك أفضل وأسرع من أى مسئول فى وزارة التعليم! بدءًا من تكدس الفصول والكثافة الطلابية فى الفصول والعجز الكبير فى عدد المدرسين ناهيك عن درجة تأهيلهم وكفاءتهم وغياب التدريب الدورى لهم، ومرورًا بضآلة رواتب وأجور العاملين والإداريين والمعلمين فى جميع درجاتها الإدارية حتى الدرجات العليا منها، لدرجة أن يضطر مدير مدرسة للعمل الإضافى فى أعمال متدنية لا تليق بدرجته الوظيفية ليستطيع توفير متطلبات المعيشة اليومية! فإذا كان هذا حال مدراء التعليم، فما بالنا بالمدرسين؟!
 
قائمة مشكلات العملية التعليمية فى مصر خاصة فى الفترة قبل الجامعية لا تقف عند هذا الحد، فهناك المناهج وتكدسها، والتهرب من التعليم الذى يزيد من فجوة الأمية التى ما زالت تتسع، كما لا تنتهى عند مرحلة الثانوية العامة التى تمثل شبحًا مخيفًا يخشاه كل المقبلين عليها!

بدائل عصرية للثانوية العامة!
 
والسؤال الذى يراود القلقين من شبح امتحانات الشهادة الثانوية هو : أنبحث عن النجاح أم النجاة؟
هل هى معضلة كبرى ألا يجد الطالب الناجح فى الثانوية العامة مكانًا فى الجامعات الحكومية؟ إن مجرد النجاح اليوم لم يعد يكفى "للنجاة" من أمواج المرحلة العملية فى حياة الشباب، تلك المرحلة المصيرية التى تحدد اتجاهات ومسارات مستقبله الوظيفى والعملى، وكثير ممن نجحوا بدرجات وتقديرات مرتفعة لم يجدوا لهم مكانًا فى الجامعات الحكومية واضطروا للاتجاه للجامعات الخاصة ذات المصروفات الباهظة، إنها معضلة أخرى، بعد أن صارت أكثر الكليات والمعاهد الخاصة ليست إلا بيزنس ضخم شد إليه أغلب أساتذة الجامعات الرحال، وفروا من قاعات المحاضرات المجانية إلى قاعات مكيفة مريحة مرتبها بالدولار! مشكلة صعبة وهى تتفاقم وتستفحل باستمرار..

 إن المسار التقليدى فى التعليم فى حاجة لإعادة نظر لدى أولياء الأمور أنفسهم.. إذ بات الغرب اليوم يناقش نفس هذه المشكلات بشيء من التفكير العملى والنظرة العميقة المتجاوزة للشكليات.. إذ يتساءل الرأى العام الغربي اليوم عن مدى جدوى التعليم التقليدى فى ظل وجود طرق حديثة أكثر جدوى وفاعلية وأثرًا، بل وأشد ارتباطًا بسوق العمل العصري أكثر من الطرق والأساليب القديمة.. ودعونا نفكر معهم بطريقتهم لعلنا نكتشف فى أفكارهم منطقًا قابلًا للتطبيق..
 
هم يقولون إن أكثر جامعات العالم والأكاديميات الموثوقة ذات التاريخ العريق فى أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا باتت لها منصات تعليم مستقرة على الإنترنت تتيح لكافة الطلاب فى شتى أنحاء العالم الالتحاق بها والدراسة عن بعد، مع نيل أرقى الشهادات العلمية ذات الأثر التطبيقي، فكيف نهمل هذا الكنز وندير له الظهور فى سبيل التشبث بتعليم قديم لا يعد بشيء ولا يعطينا حتى شهادة تحترمها جامعات العالم وتقدرها؛ إذ أنك لو أردت استكمال تعليمك الجامعى أو ما بعد الجامعى فى إحدى البلدان الأوروبية أو كندا أو أمريكا فلا بد من امتحان معادلة، تعيد فيه دراستك للمرحلة الثانوية من جديد؛ أى أن الثانوية المحلية غير معترف بها فى الخارج أصلًا.. فلماذا لا ينصرف الطلاب لهذا النوع من التعليم منذ البداية بدلًا من إضاعة سنوات العمر فى تعليم لا يقدم ولا يؤخر؟! 

هذا كلامهم، وأنا أتفق مع وجهة نظرهم تلك وأحترمها.. ففى رأيى أن الثورة العلمية القادمة هى ثورة تكنولوجية فى الأساس، وباستطاعة الأجيال القادمة اللحاق بقطار الذكاء الاصطناعى المنطلق بقوة، فقط إذا لحقنا به مبكرًا ومن الآن..

 أقول إن التعليم التقليدى غير قادر أصلًا على مواكبة هذا النوع من التطور التقنى المتسارع، وأن علينا الاتجاه رأسًا إلى مصادر هذا النوع من التعليم ولو اضطررنا للتعليم عن بعد من منازلهم، هذا أولى من إضاعة الوقت فى مهاترات وجدالات ومتاعب لا طائل منها.

[email protected]

كلمات البحث
الأكثر قراءة