بعد استلامى العمل بجامعة برجن بالنرويج تعرفت بالمكتب المجاور على شاب نرويجى فاجأنى بمعرفته لبعض الكلمات العربية، أخبرنى أنه يعد رسالته للحصول على درجة الدكتوراه حول موضوع يتطلب منه تعلم العربية.
عندما لاحظ الفتى محاولاتى اليومية وحرصى على التقاط بعض الكلمات من اللغة النرويجية عقد معى اتفاقاً على أن أعلمه كل يوم عبارة باللغة العربية ويعلمنى مثلها بالنرويجية، واستمر الاتفاق حوالى أسبوعين وكم كانت سعادتى وكل من حولى يبدون إعجابهم عندما أردد أمامهم ما حفظته من الكلمات النرويجية. لكننى فوجئت فى أحد الأيام بهذا الشاب يسألنى: لماذا كل هذا الحرص على تعلم اللغة النرويجية؟
أخبرته أننى أحب تعلم اللغات الأجنبية، فقال حسناً تعلم الألمانية أو الأسبانية أو أى لغة أخرى يمكن أن تفيدك أكثر، لكن ما الفائدة من تعلم لغتنا؟ هى لغة لا يستخدمها أحد سوى النرويجيين! صدقنى لن تستفيد منها إلا إذا قررت أن تعيش فى النرويج. وجدته على حق فيما يقول.. حسناً لا نرويجية بعد اليوم. لكننى بقيت على وعدى بمساعدته فى تعلم اللغة العربية.
وصلت إلى النرويج فى شهر يناير لأرى الشتاء كما لم أره من قبل. الظلام هناك ليس ظاهرة كما عرفناه يأتى بعده نهار وهكذا، لا.. أبداً، الظلام هناك ثقافة وأسلوب حياة بمعنى الكلمة فكل الوقت ظلام دامس، ليس معنى ذلك أنه لا يوجد نهار، لكنه لا يزيد عن ساعات قليلة تشبه وقت الفجر عندنا. فى الشتاء إذا كتب الله للشمس الظهور يكون ذلك حدثاً عظيماً يتحدث عنه الجميع، وعلى الجميع التعايش مع هذا الوضع الفريد. أصابنى ذلك فى بداية الأمر بارتباك شديد.
كنت استيقظ فى السادسة صباحاً وأصلى الفجر حاضراً بكل اطمئنان فالظلام حولى دامس، وأرتدى ملابسى وأستقل الأوتوبيس وأذهب للعمل فى الثامنة والظلام ما زال دامساً! تنعقد الاجتماعات أو حلقات النقاش وأستمر فى العمل حتى الحادية عشر وما زال الظلام يحيط بنا! ما هذا؟ وعندما تشتد الحيرة ونبدأ فى التساؤل أين نور النهار؟ يأتى النور وكأننا ساعة الفجر ويستمر ذلك حوالى ثلاث ساعات ثم يعود الظلام الدامس مرة أخرى!
الوضع فى الصيف مختلف تماماً، وما أدراك ما الصيف فى النرويج خاصة إذا تزامن صيام شهر رمضان مع فصل الصيف، وسوف يكون لذلك حديث آخر إن شاء الله.
عندما ذهبت لأداء صلاة الجمعة للمرة الأولى وعرفوا أننى جديد بالمكان أعطونى ورقة بها مواعيد الصلاة، ولن أنسى شعورى عندما نظرت إلى الورقة ووجدت أن صلاة الفجر تحين فى الساعة الثامنة صباحاً!
معنى ذلك أننى كنت أصلى الفجر قبل موعده بساعتين! كان هناك إمامان للمسجد أحدهما صومالى والآخر باكستانى، وكانت خطبة الجمعة مرة باللغة الصومالية وأخرى بالباكستانية مع دعاء باللغة العربية فى نهاية الخطبة. لكن فى شهر رمضان وصل أحد شيوخ الأزهر الشريف للصلاة بنا طوال الشهر الكريم والحق أنه كان صورة مشرفة لمصر بصوته الساحر وحفظه شديد الاتقان لآيات القرآن الكريم باعتراف الأئمة الآخرين – الصومالى والبكستانى - المقيمين فى النرويج.
بمناسبة الشتاء والظلام فى النرويج أتذكر أننى لم أكن أستطيع النوم فى بداية وصولى، وبدا ذلك واضحاً للآخرين حيث كنت أبدو مجهداً وعينى حمراء من قلة النوم لدرجة أن المدير النرويجى "بروفيسور رونا" استوقفنى وسألنى إن كان هناك ما يضايقنى فى العمل أو إن كان ينقصنى شيء؟ أجبته بالنفى مؤكداً رضائى عن كل شيء. لكن إجابتى لم تبدو مقنعة له، فهمت مغزى سؤاله وأخبرته أننى لم أعتد هذا المناخ شديد الغرابة بالنسبة لى وأنها مسألة وقت، فوجئت به يخبرنى بضرورة عقد اجتماع مع باقى الزملاء لبحث المسألة وما إذا كان هناك آخرون يعانون من نفس المشكلة، وضرورة إيجاد حل للمسألة.
أنتم باحثون ولابد أن يتفرغ ذهنكم للبحث العلمى فقط، أية مشكلة أخرى لابد من البحث عن حل لها وبسرعة. لن أسهب فى وصف حالى وأنا أتلقى تلك الكلمات منه، تعجب.. إعجاب.. دهشة.. ذهول.. ربما، لكننى شعرت بحرج شديد فأكدت عليه أننى بخير وظللت أكرر عليه أنه لا حاجة لذلك حتى انصرف. ثم فوجئت بزميل نرويجى يأتى إلى مكتبى ويعرض أن أقضى معه الإجازة الأسبوعية لزيارة البلدة والتعرف على بعض الأصدقاء الجدد . سألته هل المدير هو الذى أرسلك قال نعم، ابتسمت وشكرته.
ظل الحال هكذا حتى التقيت فى إحدى حلقات النقاش العامة التى كانت تعقدها الجامعة بشاب مصرى اسمه خالد أبو الليل، عرفت أنه جارى فى السكن، وبدأت صداقتنا التى استمرت حتى الآن. كان فى منحة دراسية لتجميع المادة العلمية الخاصة برسالته للحصول على الدكتوراه فى الأدب الشعبى وكان قد أمضى عاماً فى النرويج وكون العديد من الصداقات . اصطحبنى خالد فى كل جولاته وتعرفت من خلاله على العديد من الأصدقاء النرويجيين. كان ماهراً جداً فى التعرف على الآخرين وتكوين صداقات معهم بمنتهى السرعة. من خلاله دخلت البيت النرويجى وعرفت عاداته وتقاليده، قابلت شباباً يتحدثون العربية وتناقشنا فى أمور كثيرة.
كنا نقضى أوقاتاً طويلة يقص خالد علينا ما يحفظ من الشعر العامى وحكايات أبو زيد الهلالى . من الطريف أنه فعل ذلك يوماً فى حضور "شعبان" زميلنا المصرى المدرس المساعد بالجامعة الذى كان يستعد للحصول على الدكتوراه فى الرياضيات، فوجئت بـــــــــــ "شعبان" ينظر بتعجب ودهشة إلى خالد وهو يسمعنا أشعاره العاميه، وفور انتهائه سأله شعبان بمنتهى الاشمئزاز : إنت بتقول إيه ؟ إيه الكلام العجيب ده وإيه فايدته؟ وتذكرت على الفور مسرحية "سك على بناتك" عندما سأل أحدهم فؤاد المهندس "مين عمر الشريف ده.. راجل كسيب يعنى؟ حاول خالد جاهداً شرح قضيته ورفض شعبان رفضاً تاماً الاقتناع.. فصلت بينهما قائلاً: اهدأوا يا أصدقائى إنه الصراع الأزلى بين الكلمات والأرقام.
وعاد خالد إلى مصر ليصبح أستاذاً فى اللغة العربية بالجامعة، وشعبان أستاذاً فى الرياضيات فى جامعة أخرى... يتبع