قلت لنفسى: أصابتهم لعنة كتابة التاريخ، يستعجلون توثيقه قبل أن يُطمس أو يُنسى.
الأدوات حاضرة، والشهود عدول، ولديهم تلك اللافتة المعتمدة والمغرية، لافتة تسمى الربيع العربى، الاسم الكودى للفوضى. يهتمون دائمًا بالتسميات البراقة: ربيع براغ، ربيع أوروبا الشرقية، ثورة الياسمين، الثورات البرتقالية... إلخ. همست لنفسى: دعهم يفرحون ببضاعتهم.
النيل كان خارجًا من منزل الحبيبة، كررت بيت الشعر هذا مرتين. قفز إلى ذهنى مرة أخرى محمد شفيق غربال، وكتابه العمدة، «تكوين مصر عبر العصور» حين صاغ حكمة عميقة، بأن «مصر هبة المصريين» وليس هبة النيل. كان غربال دقيقًا حقًا، فهم الذين قاموا بترويض النيل، وحولوا الفيضان من نقمة إلى نعمة، وهم الذين استجابوا للتحدى وتجاوزوه.
مصر لم تكن هبة الطبيعة أو الأقدار، بل هى هبة السواعد والعقول. فالنيل يشق الطريق فى إحدى عشرة دولة، لكنه لا يتجلى إلا فى مصر. يتحول من مجرد نهر إلى حضارة.
أشك الآن أكثر من أى وقت مضى فى أن اللورد كرومر كان يفهم هذا، أو أنه كان يريد أن يفهم من البداية.
لماذا يأتى إلى غربال فى هذا الصباح، وفى تلك الساعات المرتبكة؟ تساءلت بينى وبين نفسى.
المقهى الصغير يضج بالناس من كل الألوان والأعراق. بعضهم يحتفل، وبعضهم الآخر يتأمل فى صمت. قفز إلى ذهنى المؤرخ اليونانى الشهير هيرودوت، ومقولته الأشهر: مصر هبة النيل. قالها فى القرن الخامس قبل الميلاد، وبقيت صامدة إلى أن جاء شفيق غربال. كان هيرودوت يرغب فى مديح الحضارة المدهشة، لكنه لم ينتبه إلى أن النيل يقطع مسافة طويلة تصل إلى 6 آلاف كيلومتر، ولا يُعرف إلا فى مصر، يمشى فيها على مهل، واحدًا ووحيدًا. وكل ما يتفرع عنه: من أنهار صغيرة، وترع، ومصارف، وجداول، تبدو كالشرايين الصغيرة الخارجة من شريان أكبر. وجميعها هبة المصريين وليس من صناعة الطبيعة.
هذا الربيع المصطنع على شاشة التليفزيون سوف يكون أثرًا بعد عين. هكذا قلت. سمع النادل، نظر إليّ باسترابة دون تعليق.
غارقًا كنت فى تفكير عميق، كأننى أناجى غائبًا بعيدًا. المجتمع المصرى هو نتاج تفاعل كل الحضارات على أرض وادى النيل. وأحمق من يتصور أنه يمكن لفكرة مستوردة أن تعيد إنتاج هذا المجتمع حسب هواه. والهوى كان يملأ النفوس والصدور فى تلك اللحظات. الرئيس الأمريكى باراك أوباما يظهر على شاشة التليفزيون. يقدم تحياته بشغف عما يجرى فى القاهرة. قفزت أمامى صورة اللورد كرومر مرة أخرى. كان أوباما يقدم نفسه بوصفه قائدًا لغزوة الربيع. ألم يكن سلفه بوش قائدًا لغزو أفغانستان والعراق؟
أليس لكل رئيس حربه الخاصة؟ راح أوباما الشاب يكيل المديح لجماعاته، ومنظماته، وجمعياته العابرة للحدود، وشبابه المدرب خير تدريب فى صربيا، والحافظ لتعاليم جين شارب. تبسمت ساخرًا من تكرار أفعال اللورد كرومر، وكأنها قفزت من نهاية القرن التاسع عشر إلى صدر القرن الحادى والعشرين. المقهى يضج بالناس… وجوه المحتفلين غريبة. لهجاتهم لا تنتمى لأهل النيل، وإن تصنعوا وقلدوا.
غادرت المقهى إلى «مجلة الأهرام العربى»، الحصن الأخير، منتظرًا لحظة فيضان النيل، وحسب الوعد أفاض. بعد عامين ونصف العام فى الثلاثين من يونيو 2013، انطلقت حناجر المصريين كسرت حاجز الصوت، اختارت هوية مصر، لا هوية مستوردة من تعاليم جين شارب.