عفوًا لهذه الحمحمة.. إنها صهيل مواطن عربي عالمي، أصله ثابت وفرعه في السماء، لا يحبس نفسه في غرفة الذات، ولا يلهث وراء لعبة خطف الأبصار في عالم متغيراته صارت أكثر من ثوابته..!
وإن تعجب فعجب من أنفسنا، إما أننا نهرول وبسرعة الضوء إلى الماضي، نجتر الأمجاد، ونبكي على الأطلال، ونعيش عالة على الآباء والأجداد، ونحن.. ونحن.. إلى آخر مفردات هذه العائلة.. وإما أننا نلهث إلى المستقبل، فنجهله وهميًا بما نتوهمه باستخدام التسويف «سوف نفعل» و«سوف نعمل» و«سوف نكون».. و.. و..
أما اللحظة الراهنة المتعينة، اجتماعيًا وتاريخيًا، فهي لحظة شاردة، هاربة منا، أو نحن الهاربون منها، عن عمد وسبق إصرار وترصد، فلا وجود لها في رؤيتنا، مع أنها الجوهر، أو ينبغي ذلك، اللحظة فائقة الحساسية، تحليلها بموضوعية فرض عين، إذ لابد من تفكيكها وإعادة تركيبها على سنن علمية وأسس منطقية، مثل معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء، بعيدًا عن طريقتنا المعهودة: («أعتـقـد» أن: 1+1=2) !!.
اللحظة العربية والإقليمية حرجة.. تستدعي الوقوف أمامها وفيها وحولها، ليس على شاكلة « قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل» تصوروا.. وقوف وبكاء معًا! لابد من الاستخلاص والاستقطار.. حتى يتسنى الإقلاع نحو الغد، وإلا سنفعل مثل طائر البطريق، أو نتمثل «شرك الغراب» الذي حاول أن يقلد صوت البلبل، فلا هو صار بلبلًا، ولا هو عاد كما كان، بل نسي أن يكون غرابًا.
*
هنا.. يتجلى دور أهل الذكر في كل تخصص، وأهل الاختصاص في كل حقل، وياليت من لا يعرف شيئًا لا يخوض فيه.. حتى نرحم أنفسنا ومجتمعاتنا من الذين يتحدثون في كل شيء، ويجيبون عن كل سؤال، على طريقة :
«الأرض أرض والسماء سماء..
والماء ماء والهواء هواء
والنور نور والظلام عماءُ
والنار قيل بأنها حمراء
والحر ضد البردِ قولٌ صادقٌ
والصيف صيف والشتاء شتاء
كل الرجال على العموم مذكر.
أما النساء فكلهن نساء».
الاعتماد على مواجهة الذات. كفرد وكمجتمع وكدولة، هو عين الحقيقة، وعلينا أن نتذكر ونعي ألا نعتمد على أحد كثيرًا في هذه الدنيا، فحتى ظلك يتخلى عنك في الظلام.. ولا يمكن للظل أن يستقيم والعود أعوج.
*
نحن المجتمع والدولة.. نحن الوطن والمواطن.. الكل في واحد، أو ينبغي ذلك.. الانطلاق لابد أن يكون من اللحظة الراهنة.. سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، الانطلاق من الذات فردية وجمعية، الاعتماد على قوتنا مهما كانت منهكة، الضعيف يقوى، والصغير يكبر، والمريض يشفى، كل شيء هالك، وإن في الموت حياة، هذه جدلية الثنائيات، وجدل الأشياء والأضداد، وقانون الزوجية.
تشخيص الحالة بمعايير موضوعية جزء من علاجها.. والسؤال نصف الجواب.. ومعارضتك لي دليل قوتي.. إذا أحبك كل الناس فأنت ضعيف، وإذا كرهك كل الناس فأنت سيئ، وإذا اختلف الناس فيك فأنت أنت الرجل، وإذا أحبك الفاسدون فابكِ على نفسك.. سيقول قائل: الكلام جميل، لكن الفعل عليل، فأقول لابد من تلاشي أو تضييق المسافة بين التصورات والتصديقات.. هنا مربط الفرس، وعلة العلل، لابد أن نفعل ما نقول، فإن في ذلك مقتًا كبيرًا بل بغيض، ولابد من تدمير التصنيفات المذهبية الضيقة، هذا ليبرالي، وهذا ماركسي، وذاك سلفي، وتراثي، وحادثوي، ويميني، ويساري، ومتدين، ولا ديني، وملحد، وعلماني، وأصولي، و.. و.. كل هذه العائلة المسمومة فكريًا.
العالم يفكر فيما بعد الحداثة في الفكر والسلوك وطرائق العيش، ونحن لا نزال نبكي على الأطلال، ونشق الصدور، ولنا فيها زفير فقط، ونحني العقول أمام أصنام اللا معقول.
*
آن الأوان أن نلعب دور «الفاعل» وكفانا ممارسة دور المفعول به، والمفعول لأجله، ربما نتجاوز عن وصمنا بالوصف القبيح إياه «نحن ظاهرة صوتية»!.
جلد الذات العربية مرفوض ومرغوب، لكن نقد الذات مشروع وممقوت، والشك طريق إلى اليقين، والسعي إلى الحق وصولا للحقيقة..
نريد الاعتماد على «البينات» و«الوقائع» و«الحقائق» و«البراهين» و«الأرقام» و«الإحصائيات»!
لا نريد القرار المصيري على طريقة «حدثني قلبي عن ربي»!.
لا نريد العلم على طريقة «جلب الحبيب»!.
لا نريد الاقتصاد على طريقة «إذا شاهدت مطرًا ينزل فاعلم أنه مطر ينزل من محاجر الرحمة لإحياء أراضي القلوب الميتة» ولا على طريقة «حقيقة الفقير أن يكون مغتبطًا بفقره، خائفًا أن يُسلب الفقر».
*
مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى كل ومضة تنوير صادقة صادرة عن فكر حي واقعي، فكر علمي واقعي، وليس فكرًا على فكر ميت، يميت القلوب الحية، المجتمع في أمس الحاجة إلى صحوة قادرة على فرز الغث من الثمين.
المجتمع يريد أن ينبض بالحياة والحيوية، ليركض في الأفق البعيد، فلا تلوثوا الأجواء التي يحلق فيها، وكفانا تلويثًا سمعيًا وبصريًا وفكريًا ووجدانيًا وسياسيًا وحزبيًا وفضائيًا ودعويًا! لا تشدوا المجتمع إلى الوراء، والكثير منكم يدعي أن له فكرًا تقدميًا لكنه مربوط بألف خيط وقيد في ثقافة التخلف، كفانا تخلفًا ورجعية، كفانا استسلامًا وانهزامية، كفانا بكاء على الأطلال والوثنية، كفانا توهانًا في عصر الاستعارة، كفاكم بغضًا وتبغيضًا للإنارة والاستنارة! نشتاق تنويرًا وتشتاقون إظلامًا..! نتشبث بالحياة وتتشبثون بالفناء..!.
ثقافة التخلف.. مدمرة!!.
فهل من مدكر؟