فرنسا من البلدان المعروفة بتاريخها الطويل والممتد مع المظاهرات بمختلف أشكالها وأحجامها، وهي من المشاهد الاعتيادية والمألوفة هناك، لكن طرأت بعض المستجدات في النسخة الأخيرة التي تشهدها البلاد، منذ أيام، إثر مقتل شاب فرنسي من أصل جزائري على يد شرطي، وأدخلت البلاد في دوامة كبيرة من العنف المفرط من قبل المتظاهرين الذين أطلقوا لأنفسهم العنان لمنتهاه.
المستجدات المقصودة تمثلت في ثلاثة مبادئ طبقها غالبية المشاركين في المظاهرات، ومعظمهم من المراهقين وصغار السن، المبدأ الأول كان استخدام أقصى درجات العنف مع قوات الأمن المنوط بها المحافظة على النظام العام والأمن، وجرى ذلك بصورة بدا فيها روح الانتقام والغل، والرغبة العارمة في التخريب والإفساد.
وبالنسبة للمبدأ الثاني كان انتهز الفرصة واغتنمها لسرقة ونهب ما تصل إليه يدك، حتى لو كانت أطباقًا من اللحوم المعروضة في ثلاجات "السوبر ماركت"، والعجيب تلك السعادة الغامرة المرسومة على وجوه الذين اقتحموا المحال التجارية للسطو على ما فيها من منتجات، بغض النظر عن قيمتها ورخص ثمنها، وراجت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لشابة تملؤها الغبطة والحبور الشديد، لدى خروجها من محل ملابس مشهور حاملة ما سرقته جهارًا نهارًا، والأعجب تجسد في رد فعل الواقفين بالخارج الذين باركوا وشجعوا هذا الفعل الإجرامي المؤثم.
أما المبدأ الثالث والأخير، فكان احرق قدر استطاعتك ما يعترضك في طريقك من سيارات للشرطة، والمواطنين العاديين، ومنشآت عامة وخاصة، ومحلات ومطاعم وكافيهات، وكأن إحراقهم لها سيعيد الحقوق المهدرة إلى أصحابها وسيعاقب الجاني الذي تسبب بتهوره ونزقه في اندلاع هذه الأحداث المؤسفة، وانخراط فرنسا بلد الحريات في حرب أهلية بشعة، ستكون خسائرها رهيبة على كل المستويات، ولن تسفر عن منتصر، لأن الهزيمة الكاملة بانتظار الجميع.
لقد قدم المتظاهرون الفرنسيون درسًا عمليًا في الفوضى الشاملة، دون اكتراث باعتبارات الأمن القومي والحفاظ عليه، وترقب حكم القانون في مقتل الشاب نائل، وأن حرية التعبير والتظاهر ليست مرادفة للتخريب واستباحة المال العام والخاص، وأن هناك خلطًا وتشويشًا في المفاهيم لدى الشباب الفرنسي بشأن حدود الحرية، وأنها ليست مطلقة بدون قيود ومحاذير تكبحها وتحول دون استفحالها، بغية صون البلد من الانزلاق نحو مستنقع العنف الآسن، وضرب أسس دولة القانون عرض الحائط.
فضلا عن، أن هذه المظاهرات أظهرت بجلاء مدى معاناة المجتمع الفرنسي من اختلالات خطيرة في تركيبته، ومن بينها قضية الضواحي، حيث تقطن غالبية أبناء وبنات وأحفاد الأسر المهاجرة، لا سيما من الجزائر وبقية دول المغرب العربي، والظروف المعيشية فيها بالغة الصعوبة والتعقيد، وتبدو في المخيلة العامة أقرب "للجيتو" الذي يتقوقع داخله هؤلاء المهاجرون، ويقيمون جدارًا فاصلا بينهم وبين المجتمع المحيط بهم من كل الاتجاهات.
وتلك إشكالية لم ينجح المجتمع الفرنسي في إيجاد حل ناجع لها بعد، وجانب رئيس من المشكلة يكمن في "حالة الانعزال" التي تلجأ إليها شرائح عديدة من المهاجرين، وتدفعهم للسعي لتغيير المجتمع، حتى يتناسب مع معتقداتهم ومبادئهم وأفكارهم، وهو ما يتسبب في حدوث صدام مريع مع أهل البلد الذين يرون، وهم محقون، أنه على الوافد إليهم التأقلم مع المجتمع الذي اختار القدوم إليه والتمتع بمزاياه ومشاركة أهله كل شيء من وظائف وخدمات اجتماعية وصحية وتعليمية وخلافه.
يتصل بذلك أن فرنسا سادت فيها العنصرية، والتعصب ضد اللاجئين والمهاجرين إليها، وتتعمد قطاعات كثيرة إظهار تعصبها تجاه الأجانب على وجه العموم، وإلا فسر لي اندفاع بعض الفرنسيين لجمع تبرعات قدرت حتى الآن بأكثر من ٧٠٠ ألف يورو لتقديمها لأسرة قاتل نائل، فهل هذا منطق قويم يقبله العقل السليم.
بناء عليه فإن اليمين الفرنسي المتطرف يكتسب هذه الأيام أرضية جديدة وسط الفرنسيين، مستغلا ما جرى، منذ مقتل نائل، ودعا أنصاره للتظاهر في عدة مدن وبلدات، ووارد حدوث مصادمات واحتكاكات بينهم وبين المخالفين لهم، وتوقعي أنهم سيحصدون مكاسب كبيرة في الانتخابات القادمة سواء كانت محلية، أو برلمانية، وربما أيضًا الرئاسية.
وما يعزز المد اليميني بفرنسا أنه ينشط كذلك بالدول المجاورة في الأساس بسبب معضلة المهاجرين والامتعاض منهم، ويبدو أنه ينتظرهم بدورهم نجاحات بالاستحقاقات القادمة بهذه البلدان، وبعضها قريب جدًا.
على كل، فإن الشواهد الحاضرة تكشف بوضوح حجم المأزق الصعب الذي تواجهه الدولة الفرنسية المطلوب منها حاليًا وقف العنف والفوضى المنتشرة، وبعد أن تنقشع الغمة وتسترد الهدوء في ربوعها، فإن أمامها عملًا شاقًا لفحص ودراسة ما وقع، وتوابعه، وما يتعين عليها فعله لتفادي تكراره، ومعالجة المثالب والتشوهات الظاهرة بالمجتمع، والمحافظة على تماسكه ووحدته، وما دون ذلك سيعرضها لمخاطر تضعها على شفا جرف يتداعى.