ربما يقف البعض مندهشا، مذهولا، متسائلًا أمام مشاهد النهب والسلب في فرنسا، كيف أن مجتمعًا متحضرًا متمدينًا متقدمًا يغرق في هذه الفوضى، ويسقط في هذا التخريب للمنشآت العامة والممتلكات الخاصة، ويحترق في نار الفتنة التي تلتهم مقدرات الشعب ومستقبل الوطن..
هذه المشاهد التي باتت مادة خصبة ومثيرة لوكالات الأنباء وقنوات التليفزيون لابد أن نتوقف أمامها لا لتحليل أسبابها أو دراسة مسبباتها أو رصد تداعياتها فحسب، بل واستخلاص العبر والدروس منها وفي مقدمتها أن الحفاظ على الدولة الوطنية وتماسكها أهم الركائز في قوة الدولة وضمان أمنها القومي، وأن سقوط الدول يعنى غياب الأوطان، بل بمعنى أدق ذوبان الهوية، وانهيار أركان الدولة وتلاشيها وربما لا تعود مرة أخرى.
أحداث فرنسا أعادت إلى الواجهة أزمة سكان الضواحي التي كانت سببًا في إشعال فتيل الأزمة إثر قيام شرطي بقتل شاب من أحد هذه الضواحي؛ مما اعتبر عملًا عنصريًا من الشرطة، فكان رد الفعل الشعبي بهذا العنف، حتى تطور واتسع ليشمل معظم أنحاء فرنسا، ووجد فيه المهاجرون الذين يقطنون في مناطق نائية فرصة للتعبير عن غضبهم واحتجاجهم على أوضاعهم المعيشية وعدم حصولهم على الخدمات أسوة ببقية الشعب.
ولم تكن هذه الأزمة وليدة الأيام الماضية بل هي أزمة متجزرة منذ عقود في المجتمع الفرنسي، لم تنجح الحكومات المتعاقبة في إيجاد حلول جذرية لها، الأمر الذي جعلها تتفاقم عامًا بعد آخر، وتحولت مع الوقت إلى قنبلة مجتمعية موقوتة تنفجر بين حين وآخر، كما حدث في عامي 2005 و2007.وملخص القضية أن باريس يحيط بها 4 مجتمعات من المواطنين الفرنسيين من أصول إفريقية وعربية من هاجروا قديمًا إلى فرنسا وحصلوا على الجنسية الفرنسية، ويتراوح تعداد كل ضاحية ما بين 100 ألف ومليون نسمة، إلا أنها لا تحصل على الاهتمام الحكومي اللازم في الخدمات والرعاية؛ بل والمعاملة شأن المجتمعات الفرنسية الأخرى؛ مما أوجد في نفوس السكان عقدة التمييز والعنصرية، ومع مرور الوقت تحول الأمر إلى مشكلة اجتماعية تفرز هذه الأعراض التي باتت تهدد أمن فرنسا القومي، وتنسف مقدرات المجتمع بل ومستقبله.
هذه الأحداث المؤسفة والمشاهد المروعة أعادت إلى الذاكرة ما كان يحاك لمصر من مخططات للتدمير ومؤامرات للتخريب تحت دعاوى زائفة ودوافع مزيفة، والنتيجة الحتمية كانت ضياع الدولة المصرية وسقوطها.
ولم تكن ثورة 30 يونيو التي نحيا ذكراها العاشرة هذه الأيام إلا طوق النجاة الذي أنقذ الوطن من الغرق والضياع، وأعاد الدولة المصرية إلى مسار البناء والاستقرار .
وفي عالمنا العربي نماذج كثيرة وأمثلة عديدة لانهيار الدولة الوطنية بدوافع تبدو إنسانية أو تحت نوازع تحمل لافتات الحرية، واليوم لا الحرية المزعومة أقامت الدولة، ولا الثورات أعادت الأوطان أو أنصفت الشعوب، ..فقط بقايا أوطان، تمزقها الخلافات، وتعصف بها الصراعات.
مصر كانت أيضًا تتجه إلى الدخول في أزمة ضواحي موقوتة مثل فرنسا لو لم تقرر دولة 30 يونيو تطوير المناطق العشوائية التي كانت تحاصر القاهرة وعواصم المدن في المحافظات، والتي تحولت إلى بؤر للإجرام وتجارة المخدرات والجريمة، ورأينا كيف قامت الدولة بإنفاق مئات المليارات لإقامة مدن سكنية حضارية بديلة لسكان العشوائيات؛ وهي تجربة كانت محل تقدير من كبرى المؤسسات العالمية التي اعتبرتها نموذجًا ملهمًا.
ولم يكن المشروع القومي العملاق حياة كريمة إلا تحرك من دولة 30 يونيو لتحقيق العدالة الاجتماعية والنهوض بالمجتمعات الريفية من خلال الوصول بالخدمات الحضارية إليهم بتكاليف تصل إلى 700 مليار جنيه.
لم يتوقف عطاء الدولة عند هذا الحد؛ بل سبقت كل ذلك بمشروعات عملاقة في الطرق والكباري والمصانع المزارع؛ بل وفي الخدمات الصحية والتعليمية.. وغيرها تغطي ربوع الوطن، وتعكس توزيعًا عادلًا للتنمية لكل أفراد الشعب.
المؤكد أن هناك فارقًا بين الطبيعة الديموجرافية والثقافية والاقتصادية في مصر وفرنسا، لكن ضمانات الأمن القومي للدول تحكمه ثوابت وأطر تكاد تكون متطابقة، ومن هنا رأيت في أحداث فرنسا تذكرة وعبرة بأن الأوطان مهما بلغت من تقدم أو تحضر أو تطور، فإن الحفاظ على الدولة الوطنية أمر أساسي لبقاء الشعوب واستقرار الأوطان، وهذا لن يتحقق إلا بثوابث راسخة وقيم واضحة ومسئولية وطنية ووعي من القيادة السياسية وهو ما فعلته مصر.
حفظ الله مصر وجيشها العظيم.
[email protected]