1-7-2023 | 09:38

القارئ لتاريخ (هارون الرشيد) الحقيقي يندهش لكمية الأساطير والأكاذيب التي نسجت حوله، لم تكن تلك هي الشخصية التاريخية الوحيدة التي تحاك حولها أباطيل الأفاكين.
كثير من شخصيات التاريخ تعرضت لمثل هذا الإجحاف، وهذا هو تأثير نوع آخر من أنواع الأدب هو "الأدب الشعبي".
 
إنه نوع آخر من الأدب يمتزج فيه التاريخ بالخيال الأدبى بالشائعة، فيتحول إلى أسطورة أو إلى بطولات وسِيَر شعبية مثل (ألف ليلة وليلة)، و(التغريبة الهلالية).

هنا يكمن الدور الخطير الذى تلعبه السيرة الذاتية فى التصدي للإفك والتخريص الذي قد يمارسه أصحاب الأهواء والأغراض من كتاب التاريخ. 

إن السيرة الذاتية للسياسيين هى الدرع الأهم فى مواجهة أى افتراء تاريخى ضدهم.
لا أحد ينكر دور الشائعات فى التأثير فى الرأى العام، لكن دورها الأكبر هو فى تزييف التاريخ، بل إن بعض الأباطيل والشائعات التى تسري بين الناس قد تتحول مع مرور الزمن إلى ثوابت وحقائق 

ومعتقدات وتقاليد وأمثال شعبية.
خاصة أن القارئ العربي متهم بأنه لا يقرأ؛ بمعنى أنه يكتفي بقراءة ما يحبه وما يميل إليه؛ أي أنه يقرأ ليستمتع لا ليعرف؛ ولهذا تنتشر قراءة الصحف والروايات الخيالية وكتب الحظ والتسلية، بينما تعاني الكتب الجادة من الركود، هذا ما يجعل الأدب يسبق التاريخ من حيث الرواج والشهرة، فالناس تُقبِل على الرواية الخيالية والقصة أكثر من إقبالها على العلم والتاريخ. وهذا ما يجعل الأدب التاريخى أدباً خطيراً إذا اكتفى به القارئ كمصدر معرفي.


غير أن قُرّاء التاريخ من المتخصصين والهواة كليهما يكتشفون أن التاريخ ملئ بالفجوات والثغرات والأحاجى. وأن هناك حاجة ماسّة لاكتشاف غوامض التاريخ ثم محاولة فك طلاسمها وملء فجوات البازل التاريخى حتى تتضح الصورة الكاملة للحدث التاريخى.

فمن هم المسئولون عن هذا الأمر، باحثو التاريخ أم الأدباء؟ أصحاب العلم أم أصحاب الخيال؟ 
الباحثون المنهجيون أصحاب الدراية والخبرة بالتأكيد هم الأقدر على تمحيص الحدث التاريخى، وإجراء مقارنة بين مصادره لكشف التناقضات بينها. 

لكن الأمر يحتاج لمخيلة واسعة لإدراك النواقص فى الصورة الكلية للمشهد، لا الاكتفاء بمجرد الرصد التحليلي القائم على الدليل المباشر وحده.
 وكذلك الحال، الأديب والباحث التاريخى كلاهما مسئولان عن كشف المسكوت عنه فى طيات التاريخ، فالأديب يلاحظ النقص ويرصد العيب ويعرض رأيه التخيلى عن القضية لملء الثغرات والجيوب، والباحث يحلل ويفند ويؤكد ما ذهب إليه الأديب أو ينفيه.

المسكوت عنه وعنا..

أدباء كثيرون استهواهم التاريخ بسحره ودهاليزه التى تبدو كالمتاهة، فانجذبوا لهذا الحقل المغناطيسي فى محاولة منهم لكشف الأسرار أو تفنيد الأباطيل أو تفسير المسكوت عنه فلماذا اختار الأدباء التاريخ مادةً لهم؟ وهل معالجة التاريخ بطريقة أدبية تخرجه من دائرة العلم إلى دائرة الفن؟
 التاريخ مادة شائكة من مواد العلم، وله منهجيات وطرق بحث مدروسة حرصاً  على المصداقية والشفافية والدقة وأمانة النقل والحياد، وهي أمور تتطلب من المؤرخ توافر مواصفات ضرورية أهمها قوة الذاكرة وسعة الإدراك وعدم التعصب أو الانحياز،كما تتطلب من الباحث التاريخى - وهو يختلف عن المؤرخ- منهجاً بحثياً سليماً، وتوثيقاً دقيقاً، مع قدرة استثنائية على تمييز صحة الحدث التاريخى من مقارنة المصادر وإدراك المتطابق والمتناقض؛ فهو مثل وكيل نيابة أمامه عدد من المتهمين، وهؤلاء المتهمون هم "كتب التاريخ".
 
الأديب يختلف عن كل هذا، فهو ليس مؤرخاً. إنه يتجاوز مرحلة الباحث إلى مرحلة أعلى منه هى مرحلة الناقد. وبمجرد أن يتبنى كاتب التاريخ وجهة نظر خاصة يتحول إلى كاتب مغرِض ويتلقى من النقاد اتهاماً مباشراً بالانحياز وربما بتزييف التاريخ. هذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها عندما كتب طه حسين كتابه (فى الشعر الجاهلى)، لأنه وصف التاريخ من زاويته الخاصة ولم يكتفى بمجرد سرد الحدث أو التعليق عليه.
 
لكن الأدباء من كُتّاب التاريخ لا يمكن وضعهم فى سلة واحدة، فمنهم من يتناول التاريخ بطريقة سردية، لكنه يستخدم الأدب فقط لتيسير المادة وإعطائها نكهة محببة، والأديب له دور هنا فى إسالة المادة التاريخية الصلبة وتليينها لتصير طيّعة فى يد المتلقى. ومن هؤلاء الأدباء (جورجى زيدان) فى التاريخ الإسلامى، و(أحمد أمين) فى السيرة، و(عباس محمود العقاد) فى العبقريات.
 
أدباء آخرون هم روائيون فى الأصل، حاولوا مزج الخيال بالتاريخ ليربطوا الأحداث بعضها ببعض ويصوغوا لنا رواية تاريخية مكتملة الأركان فنياً وتراثياً. وظل العيب اللصيق بها أنَّ فيها من الخيال أكثر مما فيها من الحقائق الدامغة. وهؤلاء هم من نقلت عنهم السينما أفلامها التاريخية. ولعل من أشهر الروائيين الذين كتبوا روايات تاريخية (على أحمد باكثير) بروايته الشهيرة "وا إسلاماه" التى تحولت إلى فيلم سينمائى ومسلسل تليفزيونى، وله روايات ومسرحيات تاريخية كثيرة أخرى. ومنهم أيضاً (نجيب محفوظ) فى رائعته الشهيرة "كفاح طيبة".
 
التاريخ لا يستغنى عن الأدب، فالعلم يحتاج لعرضه بطريقة فنية تجتذب القراء. وربما ندرك قيمة التناول الأدبى للتاريخ عندما نقارن بين كتاب (سيرة ابن هشام) وبين كل الكتب التى جاءت بعده من كتب السيرة. هنا ندرك أن هناك كتباً مرجعية يقرأها الخاصة والمثقفون، وكتباً أخرى يستطيع عموم الناس قراءتها بسهولة ويسر.
 
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: