26-6-2023 | 11:00

مِن فضل الله تعالى على أمَّة مُحمدٍ ﷺ أنْ عدَّد لها مواسمَ الطَّاعاتِ، وأزمنة البركات، الَّتي يضاعفُ فيها الحسنات، ويرفعُ فيها الدَّرجات، ويستر العيوب والزَّلَّات، ويغفرُ الذُّنوب والسَّيِّئاتِ، ومِن هذه المواسم المباركة يومُ عرفةَ، وما أدراكم ما عرفة!

نعم، حُقَّ لنا أن نتساءل عن عرفةَ، وعمَّن عرف عرفة، وفهم المعاني الرَّاقيةَ الَّتي يحملها هذا اليوم الأغرُّ.
إنَّ عرفةَ يوم مشهودٌ، يشهد فيه النَّاس على أنفسهم بالتَّقصير، وتشهد فيه الملائكة دموع التَّائبين ودعوات الرَّاجين، ويشهد الله سبحانه وتعالى على خلقه ويُشهدهم برَّه.

وفي هذا اليوم من المعاني الكثيرة ما يسترعي النَّظر والتَّأمُّل، فكم وقفت بساحته الجموع، وكم سالت فيه من النَّادمين الدُّموع، وكم رُفعت فيه الدَّعوات، وطلبت فيه الحاجات، وكتبت فيه الدَّرجات، وغفرت فيه الزَّلَّات.

وكثيرٌ من النَّاس ينظرون إلى عرفة باعتباره جبلًا يقف النَّاس عليه يوم التَّاسع من ذي الحجَّة، فيتوبون إلى الله من ذنوبهم ويسألونه من فضله!

ولكنَّ هذا الرُّكن الأعظم من عبادةِ الحجِّ بما ورد فيه من نصوصٍ شرعيَّةٍ يحمل للنَّاس -مَن وقف به ومَن لم يقف - عددًا من الرَّسائل الَّتي تفرض التَّفكير فيها، وتوجب الحركة استنادًا لها.

وأوَّل رسائل عرفة أنَّه يوم تجديد العهد مع الله، والوفاء بالميثاق الأوَّل، والاستجابة للفطرة الَّتي أودعها الله عزَّ وجلَّ فينا، فمنذ الأزل أخذ الله العهد والميثاق على البشريَّة أنَّهم عبادٌ لله، وأنَّه سبحانه وتعالى ربُّهم وخالقهم، وأقرَّت البشريَّة في عالم الذَّرِّ بهذا.

يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾، وقد كان هذا الاعتراف والإقرار بعرفة، يقول النَّبِيُّ ﷺ: «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا» قَالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾.

ونحن بحكم الفطرة عبادٌ لله، وإلَّا فأخبرني من فينا اتَّخذ قرار وجوده في الحياة، ومن منَّا اتَّخذ قرار ترتيب أجهزته وجوارحه على هذا النَّحو البديع؟ ومن منَّا يستطيع أن يعارض الموت إن حان الأجل؟!

إنَّ يوم عرفة يذكِّرنا بهذا الميثاق، ويدعونا للوفاء بالعهد، والاستجابة لفطرتنا السَّويَّة الَّتي تفضح الرُّبوبيَّة البلهاء والتَّفلُّت الأحمق والإلحاد المتناقض مع ناموس الكون الَّذي تشهد ذرَّاته ومكوِّناته ألَّا إله إلَّا الله ربُّ العالمين.

وإذا كان عرفة يذكِّرنا أنَّنا عبادٌ لله بالفطرةِ والقوَّة؛ فإنَّنا نلتمس مع تجدُّد عرفة أن نكون عابدين لله بالاختيار والحبِّ.

والرِّسالة الثَّانية الَّتي يحملها يوم عرفة أنَّه يومٌ مباركٌ أكمل الله فيه الدِّين وأتمَّ فيه النِّعمة ورضي لنا فيه الإسلام دينًا، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة، 3]، وهذه الآية ليست مجرَّد كلماتٍ تجري على ألسنة النَّاس، وإنَّما هي إعلانٌ صريحٌ بكمال نعمة الدِّين، وحقُّنا أن نفرح بهذه النِّعمة الكاملة، وإذا كانت نعم الله على عباده لا تعدُّ ولا تحصى فإنَّ نعمة الدِّين من أولاها وأجلِّها.

وأنا أعجب من هذه العقول الَّذي تستطيع إدراك النِّعمة الحقيقيَّة، وتقدِّرها حقَّ قدرها، وتريد الاحتفاء والاحتفال بالزَّمان الَّذي تمَّت فيه النِّعمة فتجعله يوم عيدٍ وحبورٍ وابتهاجٍ وسرورٍ، فقد قال أحد اليهود لعمر بن الخطَّاب: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَأونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»، ثمَّ يزداد عجبي وأسفي حين أنظر إلى قومٍ جعلوا الإسلام وراءهم ظهريًّا، واستبدلوا به نظريَّاتٍ شائهةً وفلسفاتٍ غريبةً وأفكارًا عقيمةً.
إنَّ يوم عرفة بما فيه من إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة والرِّضى بالإسلام دينًا يثير عددًا من الأسئلة، وأوَّل هذه الأسئلة الواجبة والضَّروريَّة: ما الإسلام الَّذي رضيه الله لنا دينًا؟
وقطعًا إنَّ الله سبحانه وتعالى لم يرض لنا الإسلام ليكون بيننا اسمًا فقط، أو ليسجَّل في أوراقنا فحسب، وإنَّما رضيه دينًا بمصادره من قرآنٍ وسنَّةٍ وعلومٍ تدور حولهما، ودينًا يصل الأرض بالسَّماء، ودينًا يحمل من السُّلوك والعمل ما يصون الإنسان ويعمِّر الأكوان، ويصلح الدُّنيا والآخرة، ودينًا يصوغ القلوب ويشكِّل العقول ويوجِّه السُّلوك.

وإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد أكمل الدِّين في ذاته، وأتمَّه بمقوِّماته، فهل سعينا بصدقٍ لإكمال تديُّننا؟ ولإتمام التزامنا؟ وماذا قدَّمنا لدين الله حين حاول البعض تشويه جمال أحكامه؟
وثالثة الرَّسائل الَّتي يحملها يوم عرفة للأمَّة كلِّها أنَّه يوم الفخر والمباهاة بأهل الموقف، فإنَّ الله جلَّ جلاله يدنو يوم عرفة ويباهي بأهل الموقف ملائكته، ويقول: «انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ».

والله عزَّ وجلَّ لا يباهي ملائكته بالكسالى والفارغين، وإنَّما يباهي بالصَّادقين العاملين، وإنَّ العباد حين يقبلون على ربِّهم فإنَّه سبحانه وتعالى يقبل عليهم بمغفرته ورحمته، ويفرح بهم ويفخر.
وإذا كان الله جلَّ جلاله يفخر بأفرادٍ وقفوا بعرفة يسألونه، فإنَّه والله أعلم يفخر ويباهي بأمَّة، لكن هل يباهي الله ملائكته بأمَّةٍ ضعيفةٍ؟ هل يباهي الله بأمَّةٍ متفرِّقةٍ؟ هل يباهي الله بأمَّةٍ لا تملك أسباب العلم والتَّقدُّم؟

إنَّ الأمَّة الَّتي تريد أن يباهي الله بها لا بدَّ أن تملك مقوِّمات الخيريَّة، فتكون أمَّةً عابدةً عالمةً عاملةً.

* الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
د. محمود الهواري يكتب: «ذوو الهمم» .. تاريخٌ وواقعٌ وواجباتٌ

في الثَّالث من ديسمبر من كلِّ عامٍ يتجدَّد الاحتفال باليوم العالميِّ لذوي الاحتياجات الخاصَّة، وهو اليوم الَّذي خصَّصته الأمم المتَّحدة عام 1992م،

الأكثر قراءة