22-6-2023 | 14:56
الأهرام العربي نقلاً عن

نحن المصريين نحدد الزمان والمكان فى أى معركة، ويسجل التاريخ أننا ننتصر دائما، إذا ما التزمنا بهذا الشرط المصرى الخالص، وفى هذا لا ينافسنا أحد.

كان المكان والزمان محددين، كان الصامتون يشاهدون نهاية اللعبة، وآن للعبة أن تنتهى، وقد انتهت يوم الثلاثين من يونيو 2013، ساعات قلائل من العبور من ضفة إلى أخرى.

هل كان ذلك شبيهًا بعبور قناة السويس فى ست ساعات فى حرب أكتوبر 73؟

ربما.

هذا إيمانى العميق، حواراتى مع زملاء العمل، أصدقاء الحياة، الجيران، سائقى التاكسى، ومع كل من كان يسأل سؤالا غامضا: إلى أين نحن ذاهبون؟ وكان إيمانا أكثر رسوخا فى مواجهة المتشيعين للربيع العربى، المسمى الغربى لما جرى فى المنطقة بالكامل.

عامان ونصف العام، زمن كاف لنهاية اللعبة، تذكرت تلك الليلة الطويلة فى مبنى ماسبيرو.

- سنعود، لا تشكوا فى هذا، قلت مخاطبا نفسي، ثم علا صوتى رويدا رويدا دون وجل.

غادرت مبنى التليفزيون «ماسبيرو» السادسة صباح يوم الجمعة 11 فبراير 2011، كانت لحظات فارقة بين عالمين: عالم يتلاشى وعالم يعانى آلام المخاض.

رأيت النيل، كان شخصًا آخر. كان ساكنًا صامتًا يتأمل.

كانوا يشكلون سلسلة بشرية محكمة، شققت الصفوف من بينهم بصعوبة، حين أصبحت على الجانب الآخر من مبنى ماسبيرو، استوقفنى أحدهم ممسكًا بكتفى، كان ذا سحنة ولكنة غريبتين عن أهل البلاد، قال بغلظة لا تناسب أهل مصر: رأيناك فى التليفزيون، لا تأتى مرة أخرى، ابتسمت ساخرًا، قلت له: من أنت؟ وأى ريح قذفت بك؟

سنعود دائما، فلتشعروا بالنصر قليلا، إنه نصر مزيف.

كلماتى الحاسمة والقاطعة جعلته يترك كتفى، مبتعدا لينضم إلى أحد الأشخاص، وكان يشبهه فى السحنة والنظرة واللكنة، ابتسمت ساخرا، وقفت مكانى متحديا، ثم خطوت نحوه فى خطوة مفاجئة، قلت له:

هل تعرف إسحاق دويتشر؟

قال: هل أنت مسيحى؟

ابتسمت ساخرا، متجاهلا سؤاله الطائفي، قلت له: ذلك اليهودى النمساوى المجرى، الذى قال لإسرائيل بعد حرب 67 : النصر الذى قد يحفر قبرك. وها أنتم فى الحال نفسها، فلتتمتعوا قليلا بالنصر المزيف.

لم يدعنى أكمل المعنى، تاركا إياى واقفا كحارس على معبد مصرى قديم، غادرنى، مشيرا إلى صاحبه بأننى فيلسوف، والوقت ليس وقت فلسفة، ابتعدا ناحية مبنى ماسبيرو، ذابا فى الحشود.

بينما أنا على هذه الحال، قلت لنفسى: لا تشكوا بأننا سنعود، سنعود نحن ملح هذه الأرض، أبناء النواة الحجرية كما قال ذات مرة المؤرخ العمدة محمد شفيق غربال، فى كتابه العظيم تكوين مصر عبر العصور

ابتسمت ساخرا من نفسى، هل هذا هو الوقت؟

الهتافات تعلو بالنصر، غير أننى لم أشك قط فى أن هذه الحشود الغريبة، سوف تعود إلى جحورها فى لحظة فارقة، ألم تختطف إسرائيل يوم الخامس من يونيو 67 من بين أسنان الزمن، وأقامت الأفراح، ثم استيقظت على تدمير خط بارليف قبل 50 عاما، دعهم يكررون نفس الخطيئة، سوف يندمون.

تسلل داخلى شعور بألا أغادر، نظرت إلى النيل، رأيته كما لم أره من قبل، تذكرت شطرا شعريا من قصيدة قديمة، كتبتها قبل 40 عاما:

النيل كان خارجا من منزلِ الحبيبةْ..

رأيتُه منتصبا كقامةِ المراعى..

يضحكُ أو يغنى

تفوحُ منه خمرةٌ..

رائحةُ الأسرّةِ المضمخةْ..

يخبُّ مثلَ الثورْ..

يطلقُ صوتَهُ فى الفضاء ..

أنا هويت وانتهيت.....  

كانت الحشود الغريبة تتوالى، تندفع لاقتحام مبنى ماسبيرو، كان قد مر على وجودى فى الحياة نصف قرن، صادفت كثيرا من الناس، لكن هؤلاء الناس سيماههم غريبة، قلت لنفسى من أى جب عميق خرج هؤلاء؟

شققت طريقى بصعوبة بين الحشود الغريبة، مرة أخرى، قلت كن فى قلب الخطر تعش قويا، كما قال الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشه.

هكذا تذكرت بأننا نحن المصريين: نواة متحجرة داخل إطار التاريخ، كما تعلمنا من العمدة محمد شفيق غربال، وأننا أصحاب أمة قديمة، تؤمن بأنها: نظام اجتماعى ثابت يقوم على ضبط النيل.  وأنها: إنسانية نمت فى جو مصرى خالص.. وفى هذه الأثناء كان العالم خارج النظام المصرى يتبدل على أيدى شعوب أخرى.

صدق محمد شفيق غربال، وكذب الذين لم يؤمنوا، بأن مصر هبة المصريين.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة