تخوض أمريكا والصين، المتنافسان على زعامة عالمنا المضطرب والمأزوم، معركة شرسة ومعقدة، للعثور على مساحات تفاهم كافية بين البلدين بإمكانها إذابة جبال وتلال الخلافات المتصاعدة بينهما، منذ سنوات، حول قضايا تمس أمنهما القومي، وفقا لتفسير كل منهما لطبيعتها وأخطارها وتهديداتها في الحاضر والمستقبل، ومَن الذي سيذعن ويرضخ أولا لمنطق وحجة الطرف الآخر بتقديمه تنازلات تبعدهما عن حافة الحرب الاقتصادية والعسكرية، وأن يكون التنافس وليس الصراع هو القاعدة الأساسية الحاكمة والقائدة لعلاقتهما.
القاعدة الأساسية السالفة هي الأمل المرجو، الذي لم يتحول بعد إلى واقع ملموس، لأن واشنطن وبكين منخرطتان بكامل طاقاتهما وقوتهما في كيفية إدارة الصراع، والتمترس خلف قوائم طويلة وعريضة من الطلبات والاشتراطات والإملاءات المتبادلة، مما يجعل جهود تحسين علاقاتهما تصل في أغلب الأحيان إلى حائط سد يبحثان عن ثغرة لاختراقه والنفاذ منه.
ولم تكن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية بلينكن، للعاصمة الصينية قبل يومين سوى محاولة لإيجاد ثغرة من شأنها تلطيف وترطيب الأجواء المحتقنة والخانقة بين الولايات المتحدة والصين، وهو أرفع مسئول أمريكي يزور بكين منذ ٢٠٢١، وكانت زيارته في مجملها منخفضة جدا في سقف توقعاتها، رغم المعلن من الجانب الأمريكي والمحدد في ثلاثة أهداف، وهي إنشاء آليات لإدارة الأزمات، وتعزيز مصالح الولايات المتحدة وحلفائها والتحدث بشكل مباشر عن المخاوف ذات الصلة، واستكشاف مجالات التعاون المحتمل.
فلم يتحقق أي من الأهداف الثلاثة الطموحة، والقدر اليسير الذي أنجز فعليًا كان ضخ الدماء ثانية في أوصال قنوات الاتصال السياسية والعسكرية بين الطرفين، والتي كانت مجمدة، خلال الفترة الماضية، بسبب تداعيات الموقف الأمريكي من قضية تايوان، ومنطاد التجسس الصيني، وتكنولوجيا الجيل الخامس، وأشباه الموصلات.. إلخ.
وكسر أجزاء من جبال الثلج الفاصلة بين واشنطن وبكين خطوة إيجابية دون شك، لكنها لن تقود لما هو أفضل للجانبين، على الأقل في غضون الأشهر القليلة المقبلة، نظرًا للتباين الشديد في المواقف والتوجهات، وعدم ظهور ما ينم عن نيتهما تغييرها، أو إبداء المرونة في التعاطي معها، وذاك ليس تشاؤمًا ومحاولة لإظهار الصورة قاتمة السواد، وإنما قراءة للظاهر من مشاهد وحقائق أمام أعيننا.
فالصدام بين أمريكا والصين لا يرجع في أساسه إلى ما فصلناه أعلاه من خلافات اقتصادية وتجارية ومالية وسياسية وغيرها، وهى طبيعية ومألوفة في علاقات الدول، وسرعان ما تجد حلولها، وإن طال الزمن، على طاولة المفاوضات، بل إلى اختلافهما في رؤيتهما للعالم من حولنا.
فواشنطن تريد عالمًا بمواصفات أمريكية خالصة على الجميع قبولها دون اعتراض، وأن يدوروا في فلكها مع إعطاء هامش بسيط للحركة للآخرين للتنفيس عن مكنونات ذواتهم وتطلعاتهم، أو في قول آخر فإنها تتصرف من منطلق كونها الوصى الأمين والأصلح والأوحد لإدارة شئونه وهندسته، وفقًا لأفكارها ومبادئها.
وعبر عن هذا المعنى بوضوح وجلاء تام تصريح لـ بلينكن في ختام زيارته بكين، حيث قال نصًا: "سندافع عن مصالح وقيم الشعب الأمريكي، وسنعمل مع شركائنا وحلفائنا لدعم رؤيتنا لعالم حر منفتح، وترسيخ أسس النظام الدولي"، وقبل ذهابه ألمح إلى أن ضمن أجندة لقاءاته مع كبار المسئولين الصينيين ملف حقوق الإنسان الذي تتكلم عنه أمريكا بصفتها البلد المؤتمن عليه بتفويض أممي، ولا ندري من الذي منحها هذا التفويض، بينما تنتهك داخليًا، دون أن يرمش لها جفن، كل القواعد الحاكمة للحدود الدنيا من حقوق الإنسان مع أصحاب البشرة غير البيضاء والأقليات العرقية الأخرى، وفى معسكرات الاعتقال الخارجية في العراق وأفغانستان وغيرهما!.
في حين تحتفظ الصين برؤية مغايرة، والتي يسخر منها بعض المعلقين الأمريكيين بوصفها "عالم جينبينج" نسبة للرئيس الصيني، وعمادها التعددية والمشاركة وليس الاحتكار والانفراد بالسياسات الدولية التي تقوض سيادة الدول وأمنها ومصالحها التنموية، والتدخل في شئونها الداخلية، وشيطنة المنافسين، مثل الصين، ومن وجهة النظر الصينية فإن أمريكا تطالب وتلح لمراعاة جوانب ومواضع مخاوفها، بينما تضن بها على الآخرين.
ونقطة الإزعاج الرئيسية في علاقة واشنطن مع بكين، هي شعورها الطاغى والجارف بالثقة الزائدة، وأنها ند لا يشق لها غبار للقوة العظمى المهيمنة على عالمنا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهى ثقة وندية بنيت على ما حققته من طفرات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية ملحوظة وسريعة، إبان العقدين الماضيين، ومما يضاعف من الانزعاج الأمريكي أنه على الرغم من سلسلة العقوبات المفروضة على الكيانات والشركات والقطاعات الصينية، فإن السلطات الصينية قادرة على اجتذاب الرؤوس الكبيرة في عالم التجارة والمال الأمريكي وتستقبلهم استقبال الفاتحين.
فقبل ساعات من قدوم بلينكن إلى بكين التقى "بيل جيتس" مؤسس مايكروسوفت، مع الرئيس الصينى، وقبلها زارها "إيلون ماسك" مالك "تويتر"، وهناك آخرون أمثال هؤلاء كانوا ضيوفًا مرحبًا بهم بالعاصمة الصينية، في الوقت الذي أحجمت فيه عن التواصل الرسمي مع إدارة الرئيس "جو بايدن"، ووزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، والمغزى لا يخفى على لبيب، إذ إن لديها ما يحتاجه رجال الأعمال والمستثمرون الذين يشعرون بالطمأنينة والارتياح لمستقبل استثماراتهم عند التنين الصيني.
بالتالي نحن إزاء رؤيتين مختلفتين تسعيان لتكون لهما الغلبة والاستحواذ، وتلك هي اللعبة الدائرة بين الولايات المتحدة والصين وتجاذباتهما، إلى أن يتضح الخيط الأبيض من الأسود ويتفوق أحدهما على الآخر ويتوج بزعامة عالمنا المعاصر.