على ضفاف النيل الأسمر، شريان الحياة في مصر، تكلم الدكتور مفيد شهاب عّلامة القانون الدولي عن أهم المحطات في حياته، والدكتور شهاب رجل وطني باقتدار له مساهماته الكثيرة، يأتي على رأسها قضية التحكيم الدولي لاستعادة طابا إلى مصر، فهو أحد الشهود على فترة تاريخية ووطنية مهمة من تاريخ مصر، كما أنه برلماني متميز، وسياسي مرموق ومصري حتى النخاع، له معاركه الوطنية والفكرية المهمة، وكان من أبرز رؤساء جامعة القاهرة..
حديث الدكتور شهاب أيقظ كل مشاعر الفخر والمجد والكرامة داخل كل الحضور في القاعة، وذلك في ندوة ليونز كايرو تيوليب برئاسة وفاء فداوي، حديثه أيضا أشعل الأمل في القدرة علي عودة الحقوق، لكن بشرط التحلي بالصبر، والتخلي عن الفهلوة، فالوصول إلى الهدف يتطلب التمسك بالحق، والاستعداد للتضحية من أجله، واتباع الأسلوب العلمي في المعالجة، والاعتماد على رأي الخبراء المتخصصين كل في مجال تخصصه، وقبل هذا وذاك الحس الوطني العالي فيمن يتصدرون للدفاع عن حق من حقوق الوطن ومصالحه..
بمنتهى العزة قال الدكتور شهاب: مثلما كانت حرب أكتوبر نهاية لأسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي، كانت معركة استرداد طابا تحطيمًا لأسطورة تفوق الدهاء الإسرائيلي!!
في البداية كنا نؤمن بأننا أصحاب حق، وكانت لدينا الرغبة الأكيدة والإرادة القوية والتصميم الحقيقي على استعادة الحق بالطرق التي يتقبلها المجتمع الدولي ويقبل بها الآخر.
وعن الخلافات مع إسرائيل، قال كانت تراوغ بشدة فى الانسحاب حتى إنه عندما جاء موعد الانسحاب الكامل من سيناء في ٢٥ أبريل ١٩٨٢ سعت إسرائيل للتمسك ببقائها فى بعض المناطق، ولكنها تناست أن المصري يتمسك بكل أراضيه ولا يتخلى عن أي حفنة من تراب وطنه.
فوجئت إسرائيل بتصميم مصر على أنها لا تقبل إلا بتحرير كل أراضيها وفى مقدمتها طابا ورأس النقب، فقد أرادت إسرائيل الاحتفاظ بالمنطقتين نظرًا لأهميتهما السياسية والسياحية والاقتصادية والعسكرية، ومن هنا بدأت معركة التحكيم الدولي، معركتنا مع إسرائيل لاسترداد طابا كانت قانونية وقضائية وكانت تتضمن مستندات وأوراقًا تثبت أحقية مصر فى تسلم الأرض، وفي رأيي ما ضاع حق وراءه مطالب، فصاحب الحق لابد أن يعيده، ولابد أن يتمسك ويؤمن به ويصمم على عدم التخلي عنه أبدًا، ليس بالكلام والصراخ ولكن بإجراءات فعلية.
ومن المعروف أن اللجوء للتحكيم لا يتم بإرادة منفردة وإنما يجب أن تتوافق الدولتان على قبول التحكيم، وفي أثناء المفاوضات لاستعادة طابا ضغطنا بأننا مصممون على اللجوء للتحكيم، وأذكر وقتها أن وفد إسرائيل في المفاوضات كان رافضا التحكيم وقرر الانسحاب، وكان مقررا أن يجرى شيمون بيريز زيارة إلى مصر، لكن الرئيس مبارك رفض استقباله إلا إذا طلب من الوفد الإسرائيلي البقاء في مصر، وإعلان قبولهم التحكيم والتفاوض حول اتفاق التحكيم، هذا بالإضافة إلى أن المجتمع الدولي مارس ضغوطا على إسرائيل حتى تقبل التحكيم، وكانت هناك خشية داخل إسرائيل من فشل عملية السلام، فقبلوا التحكيم على أمل تصدير أي حجج تكون في صالحهم، وأن تفشل مصر في الدفاع عن حقها!
الوفد المصري قدم أوراقًا كثيرة بعضها خرائط تعود إلى فترة ما بعد حصول مصر على الحكم الذاتي من الإمبراطورية العثمانية، وكانت توضح أن طابا داخل الحدود المصرية، وأيضا قدمنا خرائط تخص الاحتلال البريطاني لمصر عندما طالب قوات تركية بالانسحاب من طابا؛ لأنها تقع داخل حدود مصر التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك، وقدمنا مرافعات ومذكرات وشهادات شهود، وأتذكر هنا المجهود الجبار الذي بذله المؤرخ يونان لبيب رزق في جمع الخرائط من مكتبات لندن وروما حتى إنه سقط مغشيًا عليه في إحدى محطات المترو من الإجهاد المتواصل، وأتذكر أيضًا ـ على سبيل المثال وليس الحصر ـ المجهود الجبار للفريق كمال حسن علي وزير الخارجية في ذلك الوقت، والدكتور وحيد رأفت، وشهادة إسماعيل شيرين وزير الحربية في عهد الملك فاروق، والذي كان يخدم في منطقة طابا في أثناء حرب٤٨.
كانت اللجنة تضم سفراء دبلوماسيين وقضاة وقانونيين وأساتذة في التاريخ والجغرافيا، وكانت هذه المعركة القانونية القضائية حلقة أخيرة من حلقات تحرير أرض سيناء، وكان الرأي العام مساندًا قويًا، وأتذكر كيف كان المصريون مهتمين جدًا بمتابعة سير الأحداث وكل قيادات الدولة كانت متكاتفة لتقديم الدعم إلى اللجنة القومية لاسترداد طابا، على رأسهم الرئيس الأسبق مبارك، الذى كان حريصًا على أن يتابع بنفسه كافة خطوات ومراحل التحكيم للاطمئنان على سلامة الموقف المصري وحسن إعداد الملف وإدارة القضية.
أيضا إسرائيل قدمت حججًا ولكن ضعيفة جدا، ومن مجموع ما قُدم من أدلة وحجج تولدت قناعة لدى المحكمة بأن طابا مصرية، وقد استمرت رحلة التفاوض والتحكيم الدولي لأكثر من ٧ سنوات حتى نُطق حكم مصرية طابا فى ٢٩ سبتمبر ١٩٨٨، ورُفع العلم المصري على آخر قطعة أرض تم استردادها.
ولا أنسى تفاصيل جلسة النطق بالحكم، نطق رئيس هيئة التحكيم، وكان سويدي الجنسية، الحكم بعد أن قرأ حيثياته بالكامل، وفى نهاية قراءة الحكم وحيثياته ظهرت عضو التحكيم ممثلة إسرائيل، وقالت هذا حكم ظالم وغير قانوني، فرد عليها بصوت صارم: أعلم أنك ترفضين الحكم، ولذلك أعلنت أنه صدر بأغلبية 4 أصوات مقابل صوت واحد هو أنتِ كعضو بهيئة التحكيم، وهو حكم واجب النفاذ، غير قابل للطعن، وليس من حقك أن تعترضي ونحن ننطق الحكم، ولكن لكِ أن ترفقي وجهة نظرك في شكل تقرير يرفق بالحكم يعبر عن وجهة نظرك لكنه لن يغير من الأمر شيئا.
فكان رده قويًا وحكيمًا، وشعرت المُحكِّمة الإسرائيلية بالحرج فاضطرت أن تلزم الصمت.
شعرنا بالفرحة الشديدة، فكنا نشعر بأن هناك من يحاول أن يغتصب حقوقنا أمام أعيننا بادعاءات باطلة، لكن كنا موقنين أننا أصحاب حق، وأن المحكمة تتميز بالكفاءة والعدالة، لكن كانت هناك نسبة من القلق، ولم نطمئن إلا بعد النطق بالحكم.
وخرجنا عن شعورنا وهتفنا الله أكبر طابا مصرية داخل مقر بلدية جنيف في القاعة التاريخية. كان عددنا 25 مصريا، وفى الوقت نفسه ظهرت علامات الخيبة والحسرة على وجوه الإسرائيليين!! وقد سمعت بأذني عضوا في الفريق الإسرائيلي اسمه روزين شبطاي، قال: لقد كنا نعرف أن طابا مصرية، ولكن عندما قررنا الدخول في التحكيم كنا نعتقد أن المصريين لن يتمكنوا من الدفاع الموضوعي عن قضيتهم، وبالتالي لن يوفّقوا فيها، لكن المفاجأة أنهم التزموا الأسلوب العلمي والقانوني وكانت الصدمة!! كان يتحدث بحسرة وانكسار.
الدرس المستفاد هنا لا يكفي أن تكون صاحب حق، لكن يجب أن تكون قادرًا على إثبات حقك.