استشراف المستقبل في عالم مضطرب!

17-6-2023 | 10:44

 كيف ستنتهي الحرب الأوكرانية الروسية؟.. إلام سيفضي الصراع السوداني؟.. هل سيعود ترامب إلى رأس السلطة فى أمريكا؟.. متى ستغزو الصين جزيرة تايوان؟.. ما هو مستقبل الاقتصاد العالمى؟..

أسئلة بالعشرات تشغل أذهان العامة والنخبة وكلها أسئلة بلا إجابات قاطعة؛ فقط تكهنات وتوقعات قد تخطئ أو قد تصيب، ومثل تلك الأسئلة المصيرية أو المحورية بدأت منذ نحو عِقدٍ مضى تتلمس طريق العرافين والدجالين تبحث عن إجابات شافية ولو كانت كاذبة تهادن البعض وتريحهم راحة مؤقتة خداعة! لكن هذا كله لا يشير إلا إلى رغبة الناس فى كشف ما سُتر عنهم من حجُب الغيب طمعًا في معرفة ما سيأتي به الغد من أحداث ومستجدات، وعلى إثر هذه التوقعات يأخذون حذرهم ويستعدون للقادم.
 
ليست تلك المرة الأولى التى يصاب فيها العالم بحمى الاستبصار والتوقع والتنبؤ بالغد؛ بل هى رغبة قديمة قدم الأزل منذ عهد هاروت وماروت وما تلاه من سباق للاستعانة بالقوى الخفية الميتافيزيقية من أجل اختلاس النظر واستراق السمع خلف الحوائط والجدران وحول أقطار السموات لهتك الأستار وكشف الغيوب.. تلك المهمة التلصصية التي باتت من مهمات التقنيات الحديثة بدءًا من كاميرات المراقبة وأجهزة التجسس المصغرة إلى التلسكوبات والكاميرات فائقة القدرة المثبتة على مئات الأقمار الصناعية المسلطة على كل بقعة حول الأرض!

فوضى الدجالين..

لم تتحرج وسائل الإعلام المختلفة أن تأتي بالدجالين والعرافين وقراء الفنجان للقيام بمهمة الدجل والكهانة والتنبؤ بالأحداث مع مطلع كل عام جديد.. حتى صارت تلك المناسبة هى موسم مربح لأمثال هؤلاء! والغريب أن أكاذيبهم التى سرعان ما تتكشف تباعًا لا تمنع الإعلام من إعادة استخدام نفس الدجالين للقيام بمهمة الكذب من جديد..
 وبقدر ما يثيره الأمر من عجب ودهشة، إلا أن انتشاره بين الناس بمختلف ثقافتهم ودرجة تعليمهم يشير إلى أهمية الانتباه له لإدراك مغزاه وأسبابه. هناك خوف خفى دفين يعصف بالقلوب وتموج به النفوس؛ خوف مما قد يأتي به الغد من أحداث، وقلق متزايد له ما يبرره من وقائع حالية واضطرابات وقلاقل وحروب هنا وهناك.. وقائع متلاحقة دفعت الناس دفعًا نحو محاولة استقراء المستقبل بكل السبل مهما بدت واهية.. ثورات عربية ثم كورونا ثم حرب أوكرانيا ثم حرب السودان وفى خضمها جميعًا تضطرب الأرض بكوكتيل مخيف من الكوارث الطبيعية بدأت بموجات من الجفاف والفيضانات والحرائق وتوالت بموجات أخرى من البراكين والسيول والأعاصير، تحولت معها خارطة المناخ إلى لغز يستعصي على أكبر خبراء الطقس فى العالم! فلا يمكننا أن نلوم هؤلاء الخائفين الباحثين عن بصيص نور عبر الطريق الضبابى الذى يسير خلاله العالم نحو المستقبل بخطوات ثقيلة قلقة تترقب القادم فى وجل وارتباك.
مهمة الاستشراف.. لمن؟

لى كتاب صدر أثناء أزمة كوفيد 19 تحت عنوان (كورونا النبوءة والمؤامرة) تحدثت فيه بالتفصيل عما سبق الوباء العالمى من نبوءات كثيرة توقعت حدوثه، بل وحددت موعده بدقة قبل ظهوره بسنوات! واختلف شكل تلك النبوءات بين أبحاث علمية ومقالات وكتب وبرامج إعلامية وصحافة استقصائية، بل وحتى أفلام هوليوودية جاءت بها تفصيلات وأحداث مشابهة لما تم من تسلسل وقائع أثناء وباء كورونا، ولعل أشهرها فيلم (contagion) الذى تم إنتاجه عام 2011 قبل الوباء بنحو تسع سنوات كاملة!
 الآن نسينا ما كان من أمر الاتهامات المتبادلة بين أمريكا والصين آنذاك عن مسئولية أحد البلدين عن نشر الوباء كنتيجة لأبحاث بيولوجية سرية تمت فى أحد البلدين. تناسينا الأمر ولم تقم منظمة الصحة العالمية بالتحقيق فى الأمر لسبب ما. وهكذا مر الأمر ولم نعلم كيف ظهر كوفيد19 وكيف اختفى؟!

إننى أعيد طرح الفكرة ها هنا لسبب وجيه.. هو أن نتذكر كيف واجه النخب والقادة فى العالم كله توقعات حدوث الوباء بالنكران والتجاهل التام حتى حدث ما توقعه العلم والفن والأدب من تحذير طالما حذروا الناس من وقوعه. واليوم يتحدث الخبراء والمراقبون للحرب الروسية الأوكرانية عن نقطة اللاعودة التى قد تصل إليها الحرب إذا تهور أحد الأطراف فبادر بالتصعيد إلى حرب نووية لا يدرى أحد كيف يمكن أن تنتهى إذا بدأت، أو كيف يكون العالم فى أعقابها إذا تمت!!

البعض يقول إن هناك من يدفع العالم دفعًا نحو حرب عالمية نووية أخيرة كنتيجة لمعتقدات دينية أنجلوصهيونية وهواجس تنبؤية بأن حرب هرمجدون المزعومة ستأتى حتمًا ليتربع اليهود على عرش عالم يسوده الدمار ويغرقه الدم! إذن هناك مخططات تتم وتظهر لنا متنكرة فى ثوب حاخام يبشر العالم بنبوءة يظنها يقينية ويحاول إثباتها قسرًا، ولو كانت نتيجة ذلك تدمير نصف البشر بحرب نووية بين القوى العالمية كصراع وجودى أخير لا ينجو منه سوى شعب الله المختار!!

الصحافة والمستقبل..

شاهدت لقاء من لقاءات الأستاذ هيكل الإعلامية الأخيرة قبيل رحيله، تحدث فيها عن صدام قادم ومتوقع بين أمريكا وروسيا بسبب ما تم فرضه من عقوبات دولية ضد روسيا، وكيف أن مثل هذا الأمر لن تكون عواقبه طيبة أبدًا. وجاءت الأيام لتثبت صدق توقعاته.

وعندما صدر كتاب بول كينيدى الشهير (نشوء وسقوط القوى العظمى) فى نهاية السبعينيات، وتحدث فيه المؤرخ الأمريكي بصراحة تامة عن مخاوفه من تراجع المؤشرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى الولايات المتحدة الأمريكية طبقًا للمنطق التحليلى الدقيق، فى مقابل الصعود السريع لقوى جديدة فى مقدمتها الصين. وأن العالم مقبل على فترة متعددة الأقطاب، قد تأفل فيها قوة أمريكا أمام تكتلات اقتصادية وقوى أخرى صاعدة.. تجاهلت أمريكا توقعات بول كينيدي وغيره، ثم ما لبثت تلك التوقعات أن تحقق أكثرها اليوم وما زال بعضها الآخر على وشك الحدوث!

مثل هؤلاء الكتاب والصحفيين لم يستعينوا بالجن أو الدجالين والسحرة، ولم تكن لديهم قدرات مكنونة كقدرات زرقاء اليمامة التنبؤية.. ولم يروا أحلامًا فسروها فى مقالاتهم، وإنما فقط قاموا بتحليل البيانات والأحداث والحقائق ليخرجوا منها باستنتاج يكاد يقترب فى احتمال حدوثه من اليقين.. وبالعودة لبعض مقالاتى السابقة عن انهيار الدولار والصراع الأمريكي الصينى، ستجد عددًا من التحذيرات التى سبقت الأحداث ولم يلتفت إليها أحد. ولا تزال بعض الأقلام تمارس هذا الدور التحليلى الاستقرائى لاستشراف المستقبل لا لشيء إلا لتجنب التداعيات والاستعداد لأحداث مقبلة يمكننا أن نقلل من خطورتها لو انتبهنا لها قبل فوات الأوان.

المسألة هنا ليست تنجيمًا وضربًا للودع وفتحًا للمندل من أجل الإبهار والإدهاش وإثبات الذات.. بل إنها وظيفة حيوية من وظائف الصحافة، ومهمة تجدها فى أروقة مؤسسات صناعة القرار فى الدول المتقدمة لاتخاذ قرارات مصيرية تستبق العواصف السياسية والكوارث الاقتصادية المحتملة طبقًا للوقائع والبيانات التراكمية، وتبعًا لاستقراء الإحصائيات والرسوم البيانية وتحليل الأحداث القائمة.

إن من مهام الذكاء الاصطناعى الخطيرة اليوم مهمة استشراف النتائج من خلال التحليل الإلكتروني لمعلومات كاملة حول موضوع ما يتم طرحه على برنامج الذكاء الاصطناعى ليرسم سيناريوهات مختلفة حول المستقبل، يتم على هداها اتخاذ قرارات مصيرية تؤثر على حياة البشر.. لتظل مهمة الاستشراف بأساليبه العلمية والتحليلية مهمة حيوية وضرورية، لاسيما فى عالم اليوم القلق المضطرب.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة