ليست كل الأزمنة هي أزمنة تفوق وانتصار وانطلاق وحضارة؛ لأن المعادل المنطقي هو وجود أزمنة تراجع وانحطاط وتخلف يعايش البشر خلالها كل الموبقات الحياتية والإنسانية.. المادية والمعنوية، وهذا هو طابع السياق التاريخي كما اعتاده الفلاسفة والمؤرخون، لكن القضية التي تعد مثار تساؤلات لا نهائية وتمثل بعدًا فوضويًا.. هي كيف تجتمع البربرية في قلب الحضارة ومكامنها؟ بل وكيف تخترقها حتى تكاد تطمس معالمها وتطيح بمعانيها الجليلة؟ بل كيف تصبح ممثلة لبعض مكونات الكتلة الحضارية المعاصرة؟
وإذا كان عالمنا المعاصر يموج بأزمات حادة، لكنه لم يكن من المتصور أن تكون العبودية على رأسها! فخلال معلومات تجاوزت الصدمة لكل الذين يتيهون بالإعجازات الرقمية وما تحدثه من إبهار ذهني لأبناء الحضارة، استعرض مؤشر الرق العالمي أرقامًا ونسبًا كارثية تشير إلى امتداد مظلة الرق لتطال نحو خمسين مليونًا هم ضحايا العبودية الحديثة.
وإذا كان ذلك يمثل وضعًا غريبًا، بل شاذ في ظل الإنسانية المعاصرة، فإن الأغرب والأسوأ هو تصاعد هذه الأرقام والنسب.
ويمثل التقرير ببؤر هذا التصاعد في دول عدة ككوريا الشمالية وأريتريا وموريتانيا، وما تتمحور فيها أنماط العبودية بين العمالة القسرية والزواج القسري والاستغلال الجنسي التجاري وتهريب البشر وبيع الأطفال، ذلك على أثر اشتعال النزاعات المسلحة والأوضاع البيئية المتردية، فضلا عن تداعيات المشكلات العالمية وما جرته من ويلات تبدت معها قتامة صفحة المستقبل، وبذلك تكون الحضارة المعاصرة سببًا محوريًا في معاناة إنسانها، وتلك نتيجة مؤسفة لم يكن لها أن تحدث إلا بأسباب حماقات الطموح البشري، وبالطبع لا يمثل الطموح حماقة إلا إذا انعكست آثاره سلبًا حين تنقطع مقدماته عن نتائجه ويغيب الاتساق بين مفرداته وتتخلخل منظومة التحدي والاستجابة داخله.
إن الاضطرابات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإستراتيجية التي تغمر الكوكب الأرضي لابد أن تحرك العالم بأسره نحو فكرة أصيلة وحيوية وجوهرية وحقيقية، وهي أن معاركه لابد أن توجه نحو إحياء القيم الإنسانية العليا وسيادة الأخلاقيات السامية وصحوة الضمير الواعي واستنهاض الوعي الخلاق الذي يحرز تقدمًا فعليًا على صعيد الواقع المعاش، فهذه هي أهم وأخطر أسس ومقومات الحضارة المتوازنة لا الحضارة المتهاوية التي تصير فيها شرطيات التقدم هي مؤشرات للرجعية!!
إن العبودية مهما تتعدد أشكالها وتختلف أنماطها لم يكن لها حتمًا وجود في الأفق الزمني المعاصر، لكنها أسفًا قد استحوذت على حيز رحب في حياة أناس القرن الحادي والعشرون، فأقل ما يقال تمثيلاً لذلك ما أكدته الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال من أن الدولة العبرية تعد هي الدولة الوحيدة بين دول العالم التي تحاكم الأطفال بشكل منهجي تعسفي أمام المحاكم العسكرية دون التذرع بأي أساس قانوني وهو ما يقتل العدالة وينتهك كافة بنود القانون الدولي.
وطبقًا لإحصاءات هذه الحركة تعتقل الدولة العبرية ما بين خمسمائة إلى سبعمائة طفل، عاصفة بكل عرف أو مبدأ أخلاقي أو إنساني، ويفوق ذلك ما تسارع به الولايات المتحدة خلال إستراتيجيتها الدموية أن تطوع الأزمات لكوارث كونية، وهو ما تجلى مؤخرًا من دعمها مشروعًا سريًا لفرض سطوتها وعولمة الحروب عن طريق سلاح المناخ، بينما الاتفاقية الدولية التاريخية التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة تحذر الاستخدام العسكري أو غيره من تقنيات التعديل البيئي ذات الآثار الواسعة النطاق أو طويلة الأمد كوسيلة فاعلة للإضرار والتدمير.
وعلى ذلك تمثل حرب الطقس جزءًا حيويًا من الترسانة العسكرية الأمريكية، من ثم تظل مسألة العبث بها هي عبث بالأمن المحلي والدولي على السواء، وهو ما يستدعي جبهة العلماء للتصدي لها بضراوة تحذيرًا وتخويفًا للأنظمة وتوعية وإرشادًا للشعوب.
وتلك هي بعض من نماذج العبودية المجتاحة للعقل الحداثي الذي أنتج التكنولوجيا الرفيعة وبلغ أجواز الكون، وأبدع نظريات علمية وثقافية وفكرية، لكنه لم يستطع أن يحقق على الأرض أي معنى للأخوة الإنسانية أو يحتضن مبدأ أخلاقيًا أو يعتصم بقيمة عليا تحول بينه وبين التوجه اللا إنساني.