5-6-2023 | 10:41

الأناقة عزيزتي هي أن تهتمي بجمال أفكارك كجمال ملابسك... هكذا قالت مصممة الأزياء الفرنسية كوكو شانيل، ما يعكس الواقع علاقة طردية بين الأناقة الفكرية والشكلية، أو هكذا ينبغي أن يكون، ولكن بعد أن اجتاحت عواصف عشوائية محملة برياح غوغائية أرجاء المحروسة نتاجًا لهذا الانفتاح التكنولوجي الراهن، اختفت الكثير من المعايير الثقافية والذوقية تحت الأنقاض الحضارية.

كانت مصر من أرقى دول الشرق في الأزياء والمباني والبيوت وشكل الحياة والتعاملات اليومية على مدار قرون طويلة، ورغم تعرضها للكثير من الغزاة، بداية من الهكسوس وصولا إلى الاحتلال الإنجليزي، ظلت محتفظة برونقها وروحها الخاصة جدًا، وتكشف لنا حفلات الست أم كلثوم قديمًا كيف اتشحت الطبقات المجتمعية المتنوعة بطابع الأناقة، فأنت تشاهد رجلًا مهندمًا في بدلته الأنيقة بجواره سيدة ترتدي ثيابًا فاخرة من فستان لحذاء محاطين بفرو، وإلى جوارهما رجل من الأعيان الريفية يرتدي جلبابًا وعباءة وشالًا من الحرير وطربوشًا يقف على رأسه بشموخ يتناسب مع عنفوان شاربه.

حتى سكان الحارات تجد الإناث يتشحن بالملاية اللف والمنديل "المدندش" – غطاء الرأس- وبعد افتتاح دار الأوبرا المصرية عام 1988م بحضور أمراء ورؤساء والعديد من الفرق العالمية والمصرية، احتفظت بتقاليد خاصة تتسق مع الطراز الإسلامي الحديث الذي شيدته الشركة اليابانية "نيكين سيكي"، واعتبر بديلا لدار الأوبرا الخديوية التي بناها الخديو إسماعيل بوسط القاهرة بمناسبة افتتاح قناة السويس واحترقت عام 1971.

وقد ضم هذا الصرح الثقافي معظم الفرق الموسيقية والفنية، وهي تقدم الفنون الراقية الخاصة بالموسيقى والغناء أو الفنون التشكيلية بفروعها والكتب والعديد من الأنشطة وحفاظًا على رقي هذه المنارة الثقافية كان لزامًا على الحضور من الجمهور ارتداء أزياء خاصة بالسهرات والاحتفالات بعيدًا عن الموضات الجنونية التى أصابت الأناقة بذبحة صدرية مزمنة.

ومن هنا فعلى الرجال ارتداء البدلة ورابطة العنق، دون تهاون في الالتزام بالملابس المناسبة لاحتفالات الأوبرا.

حتى إنه لو صادف وحضر شخص بلا "كرافتة"، يقوم أحد الموظفين على البوابة بإيجار واحدة له لحضور الحفل ثم يتم استردادها.

فيتحول المشهد في القاعة الداخلية إلى مشهد عبثي لأشخاص حكم عليهم بالأناقة الجبرية فبحثوا عن سبل للتحايل على المفروض فتحرروا منها بعد المرور من بوابات الدخول، وربما تجد خليطًا غير متناغم من الألوان التى تصيبك بتشويش بصري.

والحقيقة أن مسرح الأوبرا الحالى بنوعية جمهوره يعد انعكاسًا صارخًا للواقع المجتمعي الذي وضع النساء والرجال في ثياب شبه موحدة تصلح للجنسين!!

لقد استبدلنا مفردات مثل "شخص شيك أو أنيق " الى "حد ستايلش"، حولنا "ليلتك سعيدة " إلى "مسا مسا "، تحول الصباح من "صباح الخير" إلى "صباحو" و"الترزي" إلى "ديزاينر" و"خفة الظل" إلى "استظراف" و"التشهير" والفضائح الى "تريند".... إلخ ثم إلى أين نحن ذاهبون؟ لقد تعرضت ثقافتنا إلى العديد من الطعنات حتى أصيب الذوق العام بجلطة حسية حولت الطرب إلى مهرجانات والشوارع إلى عشوائيات.

حالة عجيبة نزعت عن الرجولة هيبتها وعن الأنوثة نعومتها، حالة هتكت حرمة الطعام فتحولت الطاولات ذات المفارش والورود والشموع في مطاعم مغلقة إلى طاولات على الأرصفة والطرقات!

ثم ينتابنا العجب حين نجد رجلا ينهر امرأة وسط الشارع. وآخر يتحرش بها. والبعض يفترش مقعدًا في وسائل المواصلات. بينما يقف إلى جواره كهل أو امرأة حامل مثلا ونمتعض ونعض على شفاهنا من الدهشة مرددين: هو مفيش أخلاق؟ راحت فين أخلاق زمان؟ وحين نشاهد فيلمًا قديمًا من كلاسيكيات السينما المصرية تتسع أحداق أعيننا ويحوم حولنا الفخر ممزوجًا بالحنين مرددين: ياااه على الإبداع وحلاوة الرواية وجمال الشوارع زمان وصدق الفنانين زمان... وهنا تحضرني أبيات الإمام الشافعي:

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا  ** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا 
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

ويبقى السؤال: هل كشفت "كرافتة" الأوبرا عوراتنا الثقافية؟

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: