العالم المصري الذي أنقذ الهند!

3-6-2023 | 09:33

 هذا العالِم المصري الفذ أحد نوادر علمائنا الأجلاء وما أكثرهم.. عرفته عن قرب، وكان من أكثر مَن تعلمت منهم أموراً لا يمكنك أن تكتسبها إلا من مثل هؤلاء الرجال الأفذاذ.. ورغم كل ما أحاط به علمه الغزير من مواهب وما أثرى به المكتبة العلمية من أبحاث وكتب ومؤلفات وما ناله من أرفع الجوائز التقديرية، لم نستفد منه حق الاستفادة بعد، كما لم نوفه قدره المستحَق عن جدارة.. بل إن كثيراً من أبناء الجيل الجديد لا يعرفونه، فضلاً عن أن يعترفوا بفضله وعلمه..
 
هذا هو الدكتور أحمد مستجير عالم البيوتكنولوجى والأديب صاحب الإسهامات فى الشعر والعروض، هذا الرجل الذى كان سبباً فى اكتفاء دولة الهند ذاتياً فى إنتاج القمح!! ولهذا قصة..
 
شغف اللولب المزدوج!

الحق أنه سبق الجميع بحلول جذرية لمشكلاتنا الاقتصادية اليوم.. لأنه التفت إلى إمكانية استغلال الهندسة الوراثية لتحقيق ما أسماه "اقتصاد الفقراء" من خلال مشروع بحثى بدأه منذ عام 1989 مع فريق عمل من كبار الخبراء والمختصين لاستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل الملوحة والجفاف، ما يعنى أننا نستطيع إذا استزرعنا تلك السلالات أن نستخدم ماء البحر فى تحويل صحرائنا إلى مزارع أرز وقمح تكفينا نحن وعدة دول أخرى من حولنا!

الغريب فى الأمر أن أبحاثه الناجحة لقيت إهمالاً شديداً منا بينما لقيت ترحيباً من دول أخرى على رأسها الهند.. لقد نفذت الهند صاحبة النسبة الأعلى عاليًا فى الكثافة السكانية بعدد سكان تجاوز اليوم تعداد سكان الصين! نفذت مشروع الدكتور مستجير، واستفادت دولة الهند من أبحاث العالم الفذ حول زراعة القمح بواسطة مياه البحر مباشرة دون تحليتها، ولم تضف لهذه الأبحاث كثيرا، وتحولت من دولة مستوردة للقمح فى منتصف التسعينيات، إلى مصدرة له عام 2004 بعد أن حققت الاكتفاء الذاتى تماماً!!
 
لم تتوقف أبحاث د.مستجير عند هذا الحد بل كانت له عدة إسهامات علمية أخرى فى مجالات إنتاج الألبان واللحوم والدواجن والوراثة الحيوانية؛ فقد قام بتهجين الأبقار بأنواع أجنبية، مستخدماً تكنولوجيا التلقيح الصناعى بالسائل المنوى المستورد، وهو ما يؤدى لرفع إنتاجية اللبن واللحم.

 كل تلك الأبحاث جاءت فى وقت كان علم الجينات فيه لم يزل طور البحث العلمى، وكان من الممكن لمصر أن تصبح رائدة فى هذا المجال لولا اختلال الأولويات.. لقد بلغ اهتمام د.مستجير بعلوم الشريط الوراثى وتطبيقاته فى مجال الزراعة والثروة الحيوانية أنه ألف وترجم عدداً من أهم الكتب فى هذا المجال ما تزال تمثل مرجعاً رئيسياً لكل الدراسين والمهتمين بهذا العلم حتى اليوم؛ فمن مؤلفاته الشهيرة (التحسين الوراثى لحيوانات المزرعة) و(النواحى التطبيقية فى تحسين الحيوان والدواجن).. ومن مترجماته المهمة (اللولب المزدوج) و (الربيع الصامت) و(عقل جديد لعالم جديد) و(عصر الجينات والإليكترونيات) و(هندسة الحياة) وغيرها كثير مما لا تحصى فوائده من مترجمات وكتب كانت سببا مع مجهوداته البحثية فى أن يحصل على عدد من الجوائز لعل أهمها جائزة الدولة التقديرية، وجائزة مبارك فى العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، وجائزتى أفضل كتاب علمى وأفضل عمل ثقافى..
 
علم أدبي جديد!

علوم اللغة والأدب ينالها ما ينال غيرها من تطوير وتجديد.. وقد كان د.أحمد مستجير أحد مطورى علم العَروض الشعرى، وله كتاب عجيب فى هذا المجال! حتى قال عنه البعض إنه "الأديب المتنكر فى صورة عالِم".
 
بدأ اهتمام مستجير بالأدب والشعر وفنون اللغة مع كتاباته الأولى، وكان الشاعر صلاح عبدالصبور من أصدقائه، وكان زميلاً له فى مدرسة الزقازيق الثانوية.. فكتب مستجير أول قصيدة له بعنوان "غداً نلتقى" ثم دفع أحد أصدقائه لقراءتها على صلاح عبدالصبور فقال: "كتبها شاعر محترف".. أسعده الرأى وقرر مستجير حينها أن تكون له إسهامات فى الشعر والأدب.. كتب ديوانين.. ثم ما لبث أن اتجه للبحث العلمى فى الأدب، كما هو شأن العلماء، فألف كتاباً جديراً بإعادة الدراسة والبحث هو كتاب: "مدخل رياضى إلى عروض الشعر العربي"، والكتاب يُعدّ نظرية جديدة غير تقليدية لمعالجة لغة الشعر والعروض بطريقة علمية رياضية حسابية، بحيث تتحول التفعيلات إلى صيغة قابلة للحساب والضبط القياسي، كأنه مزج سحرى جديد بين الرياضيات واللغة! وهى فكرة جديرة بالبحث والإضافة..

لقد أفادته تلك التجربة الأدبية فى صياغة مؤلفاته العلمية ومترجماته التى جاءت كلها ذات لغة أدبية سهلة مرنة جذابة. 

لهذا أحب الناس قراءة الكتب المترجمة التى صاغها بطريقته الفريدة، وهو الأمر الذى يؤكد مدى ارتباط فن الترجمة بفنون الأدب واللغة، وأن الترجمة ليست مجرد مهمة روتينية يقوم بها أى صاحب لسانين، وإنما لابد من خلفية علمية تجيد انتقاء أفضل عمل لترجمته، وخلفية أدبية تجيد صياغة الترجمة وتقريبها للأفهام.

لقد عرفت هذا الرجل المتواضع والعالِم الفذ والأديب صاحب الثقافة الواسعة المتنوعة فترة من الزمن تمنيت لو أنها دامت واستمرت أكثر، لولا أنه غادر الحياة عام 2006 عن عمر ناهز السبعين عاماً، تاركاً إرثاً علميا وأدبياً وأخلاقياً يستحق أن نديم ذكره ونرفع قدره ونحتذى به.
 
لماذا ترك الأرض إلى المعمل؟!

هناك سر فى حياة د.أحمد مستجير، كان هو الدافع وراء ما قام به من أبحاث، وما أثرى به المكتبة العلمية من مترجمات ومؤلفات، وما دعا إليه من أفكار تهتم باقتصاد الفقراء..
 
كان مستجير متفوقاً واستطاع أن يحصل على ما يؤهله لكليات القمة لكنه اختار كلية الزراعة، لاهتمامه بالبيولوجيا، ولارتباطه بأستاذه فيها "خليل أفندى" وكان من خريجى كلية الزراعة، فاختار مستجير هذه الكلية تشبهاً واقتداءً بأستاذه..
غير أن الموقف الذى أثر فيه بعمق جاء عقب تخرجه من كلية الزراعة وتعيينه مهندساً زراعياً، وبينما كان يشرف على جمع القطن شاهد طفلاً ضئيل الجسم نشيطاً مجداً فى عمله فأعطاه قرشين.. فإذا بمفتش الزراعة يلومه على هذا الفعل ويوصيه بالقسوة على الفلاحين حتى لا ينفلت زمام العمل!!.. فكتب مستجير فى مذكراته مستنكراً : (هل تستلزم وظيفتى قتل الإنسان فى وجدانى؟! أيكرهون أن يربت إنسان على كتف إنسان؟!)

ترك مستجير وظيفته وفى قلبه مرارة وفى جوفه غصة.. وكرس علمه وعمله لأجل الناس، فكان يحلم أن يتحول العلم إلى وسيلة لرفاهية الفقراء وتحويل مجرى حياتهم إلى الثراء والسعة.. فكان دائماً ما يردد: (في عالمنا الآن أطفال يولدون للشقاء، لليل طويل بلا نهاية! في جعبة العلم الكثير الكثير، في جعبته طعام وبسمة لكل فم).

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: