روسيا تمر بأوقات عصيبة، هكذا تكلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين، وجاء اعترافه هذا أمام نخبة مختارة، فبعد أن منح بعضهم أرفع الجوائز في الثقافة والتعليم وعلوم الفضاء أفضى بما يدور في نفسه.
لعله كان يستعيد خطاب الزعيم البريطاني ونستون تشرشل الشهير، حين ألقى خطابًا أمام مجلس العموم البريطاني فى 13 مايو 1940 قائلا: ليس لدىَّ ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق».
هل ثمة تشابه بين اللحظتين؟ ربما. فعلى أية حال نحن فى الشهر نفسه: مايو!
الشاهد أن النظام الدولي هو الذي يمر بأوقات عصيبة، يتهشم بفعل فاعل، يرغب في إذابة نتائج الحرب العالمية الثانية، وإخراج بعض الحلفاء الذين حاربوا النازية معًا.
وروسيا السوفيتية كانت من بين هؤلاء الحلفاء، دفعت وحدها 27 مليون ضحية في الحرب التي تسميها بـ «الوطنية العظمى»، وتحتفل بها فى التاسع من مايو سنويًا، باعتبارها «عيد النصر» على النازية.
بعد 78 عامًا يبدو أن التوقف عند هذا اليوم لم يعد مفيدًا لبعض حلفاء الأمس، فهناك من يخطط للسيطرة على الأوراسيا وحده.
ولكن.. من المستحيل أن يحدث هذا دون إزاحة روسيا من جوف التاريخ، وسطح المستقبل، أو أى قوة أخرى، تبدو عليها أعراض الاستقلال، أو الاعتماد على الذات، سواء أكانت الهند أم الصين، أم أى قوة فى علم الغيب.
الشاهد أن مجموعة السبع الكبار: الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وكندا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، اليابان وقد اجتمعت في اليابان، قررت عقوبات إضافية على روسيا!
كادت المجموعة تتخذ قرارا بالحصار التام، لكنها لم تفعل فى اللحظات الأخيرة، واكتفت بإضافة كيانات روسية إلى قائمة الممنوعات، ولو جاء القرار بالحصار الشامل لكانت الحرب العالمية، قد اندلعت على الفور.
يبدو أن الغرب لا يعدم وجود الحكماء.
إن سياسة الحصار، والعقوبات، والمنع، وقطع شرايين النظام الدولي، وتدمير المؤسسات الأممية، سياسة بائسة، تم تجريبها على مدى 78 عاما، أى منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فكم دولة تم حصارها، أو تم إشعال الثورات الملونة فيها، وكم حرب اندلعت بأكاذيب إعلامية، وكم فوضى ضربت دول العالم الصغرى أو المتوسطة.
تكرار الأمر بنفس المواصفات يشبه ذلك الشخص الذى يضع الخمر الجديدة فى الزقاق العتيقة، فتتمزق هذه الزقاق، والزق كما هو معروف، وعاء من جلد يملأ بالماء أو اللبن أو الخمر، وإذا ما وضعنا فيه شراباً جديدا يتمزق.
هذه الحكمة الموروثة، لم تمنع بعض ساسة النظام الدولي، وفلاسفته، وأبواقه فى كل مكان، من أن يكرروا وضع الخمر الجديدة فى الزقاق العتيقة، والنتيجة هي ما نرى، أزمة اقتصادية عالمية، وحروب استنزاف، وقطع لشرايين المجتمع الدولي، وإحراق للثقافة الإنسانية.
ومع هذه الأوقات العصيبة يبدو أن حضور الذكاء الاصطناعى الطاغي، وثورته الصناعية الرابعة، سيكون بمثابة عصا موسى، التى يجب أن تمزق الزقاق العتيقة للسياسة العالمية.