تتغير المسالك.. تتبدل الدروب.. تتغير الملامح .. تنطمس المعالم .. لكن لا شىء يمكن أن يغير أو يبدل أو يطمس أشواق الذاهبين إلى الله.. وحنين العائدين من السلام على النبى .. ذلك أن شهادة «أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله» تبقى، وإن راح من رددوها ذاهبين أو عائدين فى الطريق المشهود من بركة الحاج فى المطرية، إلى قوص فى الصعيد، ثم إلى عيذاب فى البحر الأحمر.. الطريق إلى الله ورسوله.
موضوعات مقترحة
عند ذكر حملات الفرنجة الشرق، بحسب الوصف الأوروبى لها، فإن الأذهان تسارع بربطها ببلاد الشام وبالقدس خاصة، والتى كانت مسرح العمليات والسبب والنتيجة فى ظاهر الأمر، دون التفات دقيق إلى أن تلك الحملات كانت تقصد فيما تقصد مكة والمدينة، حيث بيت الله الحرام والروضة النبوية الشريفة، وما منعها من إدراك مقصدها فى بلاد الحجاز، سوى من منعها من تحقق مقصدها فى الشام، وهى مصر حامية المقدسات، ومعمرة المسالك المقدسة من وإلى كل مقدس.
قلت فى الحلقة السابقة عن مراحل طرق الحج»المتأمل لتلك المراحل، سيلاحظ على الأقل أن مسارات الحج، كانت مرتبطة بالأحداث السياسية والعسكرية حينها، والمرتبطة تحديدا بهذه الحملات، حيث كان استيلاء الفرنجة على المدن الإسلامية، ومنها المدن الأساسية فى طرق الحج كالعقبة يوقف المسار، ويرغم على استخدام واستحداث طرق بديلة، أما حينما كان يتم تحرير تلك المدن وغيرها، كان طريق الحج يعود كما فى السابق، وبالمفهوم العكسى، فإن عودة المسارات كانت إعلانا عن تحرير البلدان من قبضة الأجنبى، وكانت مظهرا من مظاهر الانتصار وفرض السيطرة، ومن هنا نفهم بعض أسباب اهتمام السلاطين المماليك بطريق الحج»
ومن أهم طرق الحج التى استخدمها المسلمون خاصة بعد استيلاء الفرنجة على العقبة هو طريق الحج المصرى من بركة الحاج بالمطرية، التى كان يتجمع فيها حجيج المغرب العربى وإفريقيا، مع الحجيج المصرى ثم ينتقلون للسفر عبر النيل، إلى قوص فى صعيد مصر، ثم يرتحلون برا إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، ثم يبحرون بالسفن إلى جدة، ومنها إلى مكة والمدينة.
إذن فالنيل الذى شهد على حجيج قدماء المصريين إلى أبيدوس، وشهد على حجيج المسيحيين إلى مسارات العائلة المقدسة، شهد أيضا على حجيج مسلمى العالم إلى المشاعر المقدسة، هو شاهد حى ما دامت الحياة تستمد من جريانه، وعلى ذلك قد نفهم أن أحد أهم المؤامرات الغربية «القديمة», هى محاولة منع جريانه فى مصر، وهى قصة سنعود لها.
وما يشهد عليه ماء النيل، يشهد عليه ماء البحر الأحمر فى عيذاب، وقد يتفاجأ البعض الآن حين يعرف أن هذه الحملات استهدفتها، وقد يتفاجأ حين يرى فى أحداث الأمس، مايشير إلى ما تخفيه أحداث اليوم؟؟!!
كان الحجيج القادمون من بقاع الأرض، يتحركون من المحروسة ثم إلى قوص، ثم يتجه إلى عيذاب ليعبروا البحر إلى جدة، وبذلك كانت عيذاب هى الميناء الوحيد للعبور المقدس، وظلت هكذا لمدة أربعة قرون من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر الميلادى، خصوصا بعد أن أغلق جنود الحملات الحج عن طريق الشام.
وكما يقول المقريزي كان أهم ميناء مزدهر يربط مصر بموانئ اليمن مع الهند والبحر الأبيض المتوسط.
وعلى أهميتها الدينية والسياسية والاقتصادية ومن ثم العسكرية، لم تسلم عيذاب مدينة وميناء من محاولات السيطر ة عليها أو نهبها، وهنا نقف عند واقعة تاريخية مهمة جدا، كان يمكن لو تحققت نتائجها أن تغير كثيرا فى مجريات التاريخ، ففي عام 1181 ميلادية، وأثناء اشتداد المواجهة بين صلاح الدين الأيوبى والصليبيين، هاجم البرنس «أرناط» الصليبي حاكم الكرك بالشام عيذاب، ودمر 16 سفينة كانت في الميناء، لكن صلاح الدين أرسل واحدا من أهم قادته وهو قائد الأسطول المصري «حسام الدين لؤلؤ» إلى عيذاب «لنجدة المسلمين»، وبالفعل تمكن حسام من اللحاق بالقوات الصليبية بالقرب من جدة، قبل أن تستكمل طريقها إلى المدينة لنبش قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعليك أن تتخيل ماذا لو أن خطة أرناط، أحد أهم رموز حملات الفرنجة وقادتها قد نجحت؟ ماذا لو كان قد وصل إلى المدينة المنورة؟!! فقط تخيل فليس على الآن أن أستمع أو أجادل من يقول إن التاريخ لا يفسر بـ :»لو».
وهناك كثير من الحوادث أو محاولات التدمير التى مرت على عيذاب، من قوى قادمة من الشمال والجنوب ومن أوروبا ومن إفريقيا، وليس من الغريب أن تتوحد بعد مئات القرون تلك القوى فى محاولة للقضاء على أحد أهم المسالك المقدسة، أو القضاء على حامية المسالك المقدسة.. المسالك التى تتردد عليها الشهادتان.